من يطرق سمعه مصطلح ( التسوية التاريخية) التي يروج لها التحالف الوطني مؤخرا , يخال له انه امام مشروع حقيقي لانقاذ البلد يتضمن حلولا جذرية لمشاكله السياسية , فكلمة ( تاريخية) تعطي مدلولات بانها تتضمن حلولا استثنائية تنقلنا لمرحلة جديدة بعيدا عن كلما اعترى الماضي من مشاكل خاصة وانهم يقولون انها تصفر المشاكل ... الا ان من يطلع على بنود هذه المبادرة سيصاب باحباط شديد يرسخ عنده قناعة ان الساسة في العراق اما ان يكونوا بلهاء او يكونوا... بلهاء , بسبب السطحية التي تلف معظم البنود فيها , وحتى ان الخبث السياسي الموجود في بعض بنودها هو خبث سطحي . وكما هو الحال دائما مع ساسة التحالف الوطني فان السفسطة الفارغة واللغة الانشائية تسيطر على معظم بنودها كاننا امام محاولة ادبية وليس محاولة سياسية لاخراج البلد من مشاكله , فقد اافردت مساحة واسعة فيها لتقديم اسم لها .. بين ان تسمى ب (تسوية وطنية) , او تسوية تاريخية , او ( المبادرة الوطنية للسلم وبناء الدولة) . اما فحوى المبادرة فيمكن تقسيمها الى ثلاثة اقسام موزعة في بنود عدة وفقرات شتى : -
1- القسم الاول منها هو اعادة مملة غير مبررة لبنود ونصوص موجودة سلفا في الدستور العراقي الذي استفتى عليه الشعب في الالفين وخمسة ودخل حيز التنفيذ في السنة التي اعبقتها . ورغم ان من حكم العراق منذ ذلك الوقت ولحد الان هم اشخاص واحزاب من ضمن التحالف الوطني . الا ان تلك البنود لم يطبق منها شيء على الارض وبقيت بنود جامدة في دستور غير مفعل . واذا كان التحالف لم يحترم بنود الدستور الذي يعتبر من مقدسات اية دولة فهل يمكن ان ينفذ ذات البنود في مبادرة سياسية ؟ فالمبادرة في بعض بنودها تضم النقاط التالية ..(الالتزام بالدستور كمرجعية والعمل به بعيدا عن الانتقائية) , (الالتزام بقيم التسامح) , (ادانة ورفض المنهج التكفيري) , (سيادة القانون) , (العمل على توزيع الصلاحيات وتطبيق اللامركزية) , (الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحكم الرشيد) , (اللجوء الى الوسائل السلمية والقانونية للتعبير عن الراي) , (رفض استخدام العنف كورقة سياسية) ,(الالتزام بوحدة العراق) , (الالتزام بالدستور دون انتقائية) , (الحفاظ على سيادة العراق واستقلال قراره وهويته ونظامه الديمقراطي البرلماني الفدرالي) , (الالتزام بان النفط والغاز ملك للشعب ومراعاة المحافظات المنتجة) , (التديد بنظام البعث الصدامي) . كل هذه البنود التي كررتها المبادرة موجودة في الدستور , ولو ان التحالف قد طبقها في توقيتاتها المناسبة سابقا لما وصلت الامور الى ما وصلت اليه الان في العراق . 2- القسم الثاني في المبادرة تشمل بنودا تفصيلية قد لا تكون واضحة في الدستور العراقي لكن تطبيقها ايضا هي مسئولية التحالف الوطني باعتباره يمثل الاغلبية السياسية المستحوذة على الحكومات المتعاقبة . ومن هذه البنود التي تضمنتها المبادرة :-(توسيع دولة المؤسسات الوطنية واصلاحها من خلال مؤسسات دستورية فاعلة وراسخة) , (اعتماد الفصل الحقيقي بين السلطات وضمان حيويتها) , (تبني الاقتصاد الحر) , (تطوير نظام التعليم) , (اعلام حر), (اعتماد مبدا الكفاءه في التعينات) , (مبدا النزاهة) , (تمكين المجتمع المدني ودوره) , (رفض تجربة الحكم الدككتاتوري والاقصائي والتميزي كنهج لادارة الدولة في اي وقت من الاوقات واحترام وصيانه حقوق الانسان ومجمل الحريات والحقوق السياسية والمدينة) , (رفض جميع اشكال التغيير الديموغرافي سابقا ولاحقا والعمل على عودة النازحين والمهجرين الى ديارهم والسعي لعودة التلاحم الوطني واعمر المناطق التي دمرها الارهاب الداعشي والحرب عليها) , (الالتزام بضرورة التوزيع العادل للثروة على اساس النسب السكانية) , (ادانة ورفض نهج الكتفير والتخوين بحق اي من مكونات المجتمع) , (تجريم اشكال التحريض الطائفي والتمييز العنصري والعرقي ) , (وتجريم الارهاب والعنف ومحاربته وكذلك محاربة الفساد الذي يستهدف العراقيين ومؤسسات الدولة) .كل النقاط الواردة في هذا القسم هي من واجبات الحكومات التي تسلمها التحالف الوطني منذ الالفين وستة . , فهل يعقل ان تكون مطالبا بتنفيذ نقاط معينة ثم تاتي وتقدم هذه النقاط وكانها صدقة ومنة منك لتصحيح الوضع المتازم . وقد حاول التحالف الوطني هنا ان يساوم بين تطبيق هذه النقاط ( التي تقع مهمة تنفيذها عليه) وبين بنود اخرى تتعلق واجبة التنفيذ على الطرفين الاخرين ( الكوردي والسني) , وتقديمها كلها ك(باكج) واحد واجب التنفيذ . وكما سنلاحظ لاحقا في القسم الثالث من بنود هذه المبادرة ان تطبيق البنود المتعلقة بالاطراف الاخرى ( السني والكوردي) سيؤدي الى تقيدهم واخضاعهم اكثر لسلطة التحالف الوطني . ولو كان التحالف الوطني صادقا في التوصل الى تسوية سياسية ( تاريخية) لكان عليه تطبيق قسم من هذه البنود كبادرة حسن نوايا قبل التوصل الى اية تسوية لتطمين الاطراف الاخرى 3- القسم الثالث .. هو القسم الاخطر والذي دفع بالتحالف الوطني اساسا لطرح هذه المبادرة , فتمرير هذه المبادرة بهذا الشكل يضمن له استقرارا سياسيا لعقود من الزمن على حساب بقية الاطراف السنية والكوردية . والمفارقة ان القسم الاول والثاني اللذان يقع مسئولية تطبيقهما على عاتق التحالف الوطني تمثل نقاطا مطاطة يمكن تسويفهما والتماطل فيهما دون سقف زمني , اما النقاط التي تقع مسئولية تطبيقها على عاتق الطرفين الاخرين ( الكوردي والسني ) والتي سندرجها في هذا القسم , فهي امور محددة لا يمكن التماطل فيها . ولذلك نقول ان هذه المبادرة هي محاولة لترسيخ سيطرة التحالف الوطني على زمام الامور . وفيما يلي البنود التي تتعلق بهذا القسم : -- (الالتزام بوحدة العراق وعدم تقسيمه تحت اية ظروف).. هذه النقطة موجهة الى الطرف الكوردي الذي يترقب الظروف المناسبة اقليميا ودوليا للانفصال عن العراق وتوقيعه على هذه المبادرة التي تتضمن هذه النقطة يعني تخليه بشكل كامل عن اي نية مستقبلية للانفصال . - (الاستعداد لاجراء التعديلات الدستورية وفق الاليات التي نص عليها الدستور) ... بالطبع ان اي محاولة حالية او مستقبلية لتغيير الدستور سوف لن يخرج من تحت وصاية التحالف الشيعي ووفق مصالحه وتوجهاته باعتباره كتلة الاغلبية . - (الاتفاق على عقد سياسي ( تحت سقف الدستور) لحسم القضايا الخلافية) ... طبعا هذه النقطة تصب في صالح التحالف الوطني الذي لا يزال مصرا على التلاعب بسقوف الدستور , فماهو السقف الزمني الذي سيجبر التحالف الوطني ( الممثل للحكومة) ان يطبق مثلا ملف المناطق المتنازع عليها مع الطرف الكوردي في كوردستان طالما انهم لم ينفذوا هذه المادة الدستورية تحت اي سقف طوال الثلاث عشرة سنة الماضية ؟ - (الاعتراض الرسمي والملزم لجميع الاطراف السياسية ومخرجاتها ( وطبعا لا احد يفهم ما معنى مخرجاتها) وما يستلزم لذلك من تبعات ومسئوليات في الصعد السياسية والقانونية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والدينية ورفض الابتزاز السياسي مهما كان نوعه والاعتراف الملزم بنتائج الانتخابات الحرة النزيهة والامتناع عن ممارسة الازدواجية في المواقف تجاه شرعية النظام السياسي ( قدم بالحكم وقدم بالمعارضة ) ووقف التحريض ضد شرعية النظام القائم داخليا وخارجيا)..... هذه النقطة في حال الموافقة عليها ستكون سيفا مسلطا على اي معارضة للاحزاب التي تشارك التحالف الوطني في الحكومات القادمة , تمنعهم من الاعتراض على اية ممارسة حكومية خاطئة , التي ستفسر على انها خروج عن روح هذا الاتفاق , مما سيعطي المساحة الكافية للتحالف الوطني للتفرد بالسلطة من دون اعتراض . - (رفض استخدام العنف كورقة سياسية بتحقيق التسويات السياسية) ...قد تفسر هذه النقطة بانها تشير الى المنظمات الارهابية , لكن التحالف يقفز في هذه النقطة الى احتمالات تشكيل اقاليم سنية قد تكون لها تشكيلات مسلحة , وبذلك تحييدها من ابداء اية معارضة على ممارسات خاطئة قد ترتكب بحق تلك الاقاليم , وهكذا يضمن للتحالف الوطني سيطرته الكاملة سياسيا وعسكريا . - (حصر السلاح بيد الدولة وعدم السماح بجود كيانات مسلحة او مليشيات خارج اطار الدولة ومواجهة الخارجين على القانون دونما تمييز) ... هذه النقطة تمثل سلاحا دائما بيد التحالف , فتقيم اي كيان مسلح في انه ضمن اطار الدولة او خارجها سيكون من خلال حكومات التحالف الوطني , ما يعطيها الحرية في التعامل مع اي تشكيل مسلح حسب اجنداتها . فلحشد الشعبي مثلا يعتبر مليشيا خارجة عن القانون عند الطرفين السني والكوردي , بينما يصر التحالف الشيعي على فرضه ضمن الحالة القانونية في العراق و ضمها للمؤسسة العسكرية لشرعنتها , في الوقت الذي ترفض فيه تشكيل اي مجموعة مسلحة سنية مستقلة الا من خلال الحشد نفسه . -(انقاذ مؤسسات الدولة من المحاصصة والمحسوبية) ... طالما ان الاغلبية السياسية في اي حكومة هي من حصة المكون الشيعي فان الحديث عن تنظيف مؤسسات الدولة من المحاصصة يصب في مصلحة الطرف الشيعي ويعطي صبغة واحدة على كل مؤسسات الدولة . البنود السابقة التي تتضمنها مبادرة التحالف الوطني قد تؤدي الى اي شيء باستثناء تصفير المشاكل وتسويتها . اما تطمين الاطراف الاخرى بالحديث على ان الامم المتحدة ستشرف على تطبيق بنود هذه المبادرة فهو ضحك على الذقون , فلا يمكن لجهة مثل الامم المتحدة ان تلزم اي طرف بتنفيذ اي من هذه النقاط , طالما ان البنود الواردة فيها يمكن اعطائها مساحات واسعة من المطاطية لا يمكن من خلالها وضع اليد على انتهاك لها , الا اذا نقل الامين العام للامم المتحدة مقره من نيويورك الى بغداد للاشراف على الخروقات الصغيرة في هذه النقطة وتلك , حينها يمكن القول بان الامم المتحدة تعتبر ضامن حقيقي لتنفيذها وطبعا هذا امر محال الحدوث . |