المالكي لم يعد صالحاً للحكم

العملية السياسية دخلت مرحلة الإحتضار، لقد بلغتها مبكراً نتيجة إنعدام الرؤى والتصورات الخاصة ببناء الدولة، وجاءت عوامل مساعدة فرضتها النخب السياسية، فقرّبت المسافة بينها وبين الموت، وذلك من خلال التورط في الفساد والتمادي في سرقة الدولة، والاستعانة بنمط من الأشخاص مؤهلهم الوحيد هو الطاعة والولاء، ثم أضيف لها عنصر آخر وهو الترحيب المفرط بعودة البعثيين وخصوصاً عتاتهم ومجرميهم، فتوغلوا في البرلمان والوزارات والاجهزة الأمنية.
كل ذلك كان يحدث منذ تشكيل الحكومة الأولى برئاسة الدكتور إياد علاوي وحتى نهاية حكومة المالكي الأولى، لكن حكومته الثانية المولودة باتفاقات سرية وصفقات خفية، شهدت تدهوراً خطيراً على مستوى الخدمات والأمن والإستقرار، فصارت الحكومة الأكثر تأزماً في تاريخ العراق الحديث بلا منازع. ولو نظرنا لها بتجرد وهدوء فهي حكومة فرضتها إيران والولايات المتحدة، واستطاع المالكي أن يخوض صراعاً مريراً مع منافسية وخصومه، حتى أجبروا على الرضوخ، ويبدو أنهم احترموا ضعفهم وقنعوا بهزيمتهم فمضوا معه في التشكيلة الوزارية التي حملت اسماً وهمياً (الشراكة الوطنية).
كان على المالكي أن يحترم مشاعر المهزومين، وأن يتصرف بطريقة رجل الدولة الذي يطوي الماضي ويبدأ صفحة جديدة في البناء، لكنه وبحس المحارب حتى النهاية، أراد ان يمعن في سحق منافسيه، وأن يفرض عليهم رفع الراية البيضاء ويجوبوا العراق شمالاً وجنوباً. فالأزمة الصغيرة التي كانت تبرز هنا أو هناك، كان المالكي ـ من خلال مقربيه ـ
يصب عليها خزانات الزيت بلا حساب. والصوت المعترض، يبادر الى إسكاته بموجة عالية من الغضب، حتى انتهى الأمر الى التقاطع مع أقرب الكيانات اليه، في سلسلة من التصرفات غير المفهومة بالنسبة لرجل يريد ان يحكم المرة تلو الأخرى، وعليه أن يحظى بثقة شركائه لا أن يحولهم الى أعداء.
حتى عقلية المحارب، لم يلتزم بها المالكي، فلم يعد يكترث لعناصر القوة والمناصرين، وكأنه امتلك أسباب القوة كلها، فتقاطع مع المرجعية الدينية وهي القوة الأكبر في الساحة، وصاحبة الرأي الحاسم في الانتخابات وغيرها، والقادرة على تغيير المعادلة السياسية لو أرادت ذلك. وزهد بالكيانات الشيعية التي تسنده وهي أقرب الكيانات إليه، وتفرقهم يعني ضعفه، لكنه راح ينظر نظرة معاكسة لذلك، فيعمد الى إضعافها وتهميشها وإزالتها من طريقه. وتوجه صوب الأكراد فخاض معهم أزمة لم يسبقه اليها أحد من الشيعة، باعتبارهم أهم الحلفاء، فصنع معهم العداوة، ودفعهم الى التحالف مع خصومه في القائمة العراقية.
والى جانب ذلك، فقد أهمل رأي الشارع الذي دعمه وصوت له، فتحدى مشاعره بتقريب البعثيين ومنحهم أعلى المناصب الأمنية، وتراخى بشكل إستفزازي في محاربة الفساد، فلم يحاسب فاسداً ولم يعاقب مقصراً، بل انه صار يعمد الى مكافأة المقصر ومن تثبت إدانته بمنصب أرفع.
وفي خطوة استفزازية للذاكرة والمشاعر العراقية، عين ابنه مسؤولاً لمكتبه واطلق يده في الأمن والوزارات، وأحاط نفسه بنفر قليل من مسلوبي الارادة يزينون له عمله ليراه حسناً، ولهم اليد الطولى والكلمة المسموعة على الدولة كلها.
أخطر ما في توجه السيد نوري المالكي أنه لم يعد يكترث بالشعب وبوحدة الصف الشيعي، وبمكانة المرجعية الدينية، ولو كان التحالف الوطني الذي ينتمي اليه يمتلك الرؤية والقرار، لبادر الى تخييره بين تصحيح مساره وبين التخلي عن السلطة، لكي لا تحدث الكارثة، لا سيما مع هذا التصعيد الطائفي الذي يريد شراً بالعراق.
ولو كان في المقربين اليه من يهتم بشؤون الشيعة والشعب، لنصحه بتعديل نهجه، أو يتركه لوحده بدل ان يمضي معه في طريق يصنع الأزمات.. فالدنيا مهما طالت فهي ايام معدودات.