يحاول بعض الساسة إيهام العراقيين بأنهم ليسوا شعبا كبقية شعوب العالم وبأن العراق ليس وطنا كبقية الأوطان , وذلك بهدف إلهائهم وإشغالهم بصراعات جانبية لا ناقة لهم فيها ولا جمل, إذ يدعي هؤلاء الساسة أن العراق بلد مصطنع أوجدته المصالح البريطانية في مطلع القرن العشرين , بإقتطاعه من الأمبراطورية العثمانية المتهالكة حينذاك ,وذلك بدمج ولايات الموصل وبغداد والبصرة , ناسين أو متناسين أن هذه الولايات كانت منذ الأزل مهد حضارات بلاد ما بين النهرين, وأن تقسيمه من قبل العثمانيين إلى ولايات , إنما هو إجراء إداري لا يختلف في مضمونه عن تشكيلات الأقاليم أو المحافظات التي يتشكل منها أي بلد بحسب هيكليته الإدارية, وهذا لا يجعل منها دولا إطلاقا . والصحيح هنا أن المصالح البريطانية إقتضت حينذاك إقتطاع أجزاء من العراق لتجعل منها كيانات تحت هيمنتها بدعوى الإنتداب أو الحماية جعلت منها دولا فيما بعد. والحديث عن خرائط سايكس بيكو سيئة الصيت التي قسمت البلاد العربية إلى دول وكيانات بحسب المصالح البريطانية والفرنسية لا تخص العراق وحده, بل تخص عموم منطقة الشرق الأوسط التي أفرزت دولا مصطنعة فعلا لا وجود سابق لها. وهنا نقول أن العراق وطنا أصيلا منذ الأزل كما تؤكد ذلك شواخصه التاريخية ,إذ يرجع بعض المستشرقين تسميته إلى مدينة أورك السومرية القديمة التي تسمى الآن بالوركاء , ويرى آخرون أن عراق مصدرها العروق نسبة إلى النهرين دجلة والفرات اللذين لأهميتهما شبهتا بالعرق أو الوريد ,أو نسبة إلى عروق أشجار النخيل التي تتواجد بكثرة في جنوب ووسط العراق,أو أنها تعني عراقة المنطقة الموغلة بالقدم.عرف العراق منذ القدم بإسم وادي الرافدين, وعرف في اللغة الآرامية بإسم بلاد ما بين النهرين , ويقصد بالنهرين هنا نهري دجلة والفرات , وعرف باللغة اليونانية بإسم ميزوبوتاميا التي كانت تشمل الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات بما فيها أراضي تقع الآن في سوريا وتركيا. قامت المستوطنات البشرية في العراق في الألفية الرابعة قبل الميلاد, وكانت أقدم هذه المستوطنات البشرية إريدو وأوروك (الوركاء ) في جنوب العراق ,ونشأت في العراق أعظم حضارات ذلك العصر , الحضارة السومرية والحضارة الأكدية في جنوب العراق التي ظهرت فيها أول كتابة في التاريخ في مدينة أور التي ولد فيها النبي إبراهيم. شارك الاكديون والسومريون في بناء تلك الحضارة في سنة 2350 قبل الميلاد وطوروا النظام اللغوي الصوري إلى شكل الكتابة الرمزية المسمى بالخط المسماري، وهم أول من أسس النظام التعليمي المركزي المعروف بنظام المدارس. ونشأت الحضارة البابلية في وسط العراق التي يعود إليها الفضل بسن القوانين والتشريعات, وكانت أشهرها مسلة حمورابي في زمن الملك البابلي حمورابي ,كما طور البابليون هندسة الري والزراعة وصناعة الأدوات المختلفة والتجارة الداخلية والخارجية . وظهرت دولة آشور في شمال العراق ,وقد انشا الاشوريون اعظم مكتبة في العالم القديم عرفت بمكتبة اشور بانيبال. واشتهر الاشوريون بمهاراتهم العسكرية وحسن تنظيمهم للجيوش وامتلاكهم اسلحة متطورة في ذلك الزمان. تشير بعض الاثار إلى وجود القبائل العربية في العراق في فترة حكم الملك البابلي نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد, وقد تكون ميسان و مملكة الحضر (نينوى) التي تأسست في القرن الثاني قبل الميلاد, من اوائل العلامات الحضارية العربية في العراق, والتي تلتها مملكة المناذرة وعاصمتها الحيرة 266 م - 633 م وحتى دخول الاسلام حيث إتخذ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب مدينة الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية. وفي عام 762 م قام العباسيون بإنشاء مدينة بغداد عاصمة لهم, وشهد العراق نهضة علمية بارزة في زمن الحضارة العربية الاسلامية لاسيما في زمـن الخليفة العباسي هارون الرشـيد وابنـه الخليفـة المامون الذي انشا بيت الحكمة ليكون ملتقى العلماء ورجال الفكر من جميع ارجاء العالم. كانت لهذه النهضة اثار كبيرة على نهضة اوروبا، اذ قام الاوروبيون بحركة ترجمة واسعة لنتاجات العلماء العرب المسلمين. وبلدا عظيما بهذا التاريخ والحضارة , هل يعقل أن يكون بلدا مصطنعا ؟كما تروج لذلك بعض وسائل إعلام بعض مشيخات الخليج التي جعل منها البريطانيون إمارات وممالك لم يكن لها بالأمس وجود ولن يكون لها وجود عند نضوب نفطها , وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي المتخب ترمب بقوله أن هذه المشيخات لم يكن لها قيمة ووجود لولا إمتلاكها صنبور النفط وحماية الولايات المتحدة لها, وعليها دفع فاتورة الترسانة الأمريكية الموجودة في أراضيها لحمايتها. وعبثا تحاول هذه المشيخات التي ما إنفكت تعادي العراق والعمل على إشعال الفتن الطائفية ليس في العراق فحسب , بل وبلدان عربية كثيرة أبرزها مصر وسورية وليبيا واليمن وجميعها بلدان أصيلة ذات حضارات راقية . ولا شك أن العراق يعاني من مشكلات مزمنة لم يضع حكامه حلولا صحيحة لها منذ أكثر من قرن من الزمان, إذ يشير الملك فيصل الأول إلى واقع العراق عند تأسيس المملكة العراقية عام 1921 : " ان العراق "مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، وهناك أكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ،أي عربية إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم, وعدم التمرن عليه ، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ..كل ذلك جعل –مع الاسف – هذه الاكثرية أو الاشخاص الذين لهم مطامع ، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق ، والذين لم يستفيدوا ماديا من الحكم الجديد ، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة ،ويشوقون هذه الاكثرية للتخلص من الحكم الذي يقولون بأنه سيئ جدا .. ولاننكر ما لهؤلاء الدساسين من التأثير على الرأي البسيط الجاهل". فما أشبه اليوم بالبارحة. وأضاف الملك : " أقول ،وقلبي ملآن أسى ،أنه في إعتقادي ، لايوجد في العراق شعب عراقي بعد ، بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لاتجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ،ميالون للفوضى ، مستعدون دائما للانقضاض على أي حكومة كانت . فنحن نريد والحالة هذه ، أن نُشكل من هذه الكتل شعبا نُهذبه ونُدربه ، ونُعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم ايضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل.. هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي." ويا لها من مفارقة , بعد نحو قرن من الزمان يعود العراق إلى حالة التشتت التي كان عليها بفعل حفنة من الساسة الذين أعمى بصيرتهم الحقد والجشع والأنانية, تولي مقاليد السلطة في غفلة من الزمن , نسأل الله أن لا تطول أكثر. وبعد أن قطع العراق شوطا مهما في مسيرة بناء وطنه وترسيخ مفهوم الهوية الوطنية العراقية الجامعة لكل أبنائه بمختلف أعراقهم وأديانهم ومعتقداتهم وطوائفهم , ترتفع الآن أصواتا نشاز للتشكيك بالهوية الوطنية العراقية بهدف تفتيت نسيجه المجتمعي وهدم كيانه بدعاوى تهميش هذه الجهة أو مظلومية تلك الطائفة أو غبن تلك القومية .وفي الختام نقول أن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي إننا جميعا عراقيون أيا كانت أعراقنا أو ادياننا أو طوائفنا أو معتقداتنا ,وعلينا جميعا التخلص من كل أشكال الحقد والكراهية التي زرعوها فيما بيننا والتي لا مصلحة فيها لأي منا, وعلينا بالتمسك بوحدة العراق وهويته الوطنية الجامعة وإقامة دولة الوطن الواحد والمواطنة العراقية الحقة التي ينعم فيها الجميع بخيراته كل حسب عطائه وإستحقاقه .ولا يختلف حالنا عن حالة أية أمة أخرى في التاريخ , إذ لا توجد أمة مكونة من عرق واحد أو إنها على دين واحد أو معتقد واحد إطلاقا , والعراق ليس إستثناء من ذلك .
|