العراق : حالة اعاقة دائمة !

 

يبدو تاريخ العراق الحديث ، كما لو كان تراكما ،لا نهائيا ، من المشاكل التي تركت دون حلول . مشاكل تنفتح على  ، اخرى ، اكثر تعقيدا او  تفضي الى عواقب اوخم .  و مشاكل تحل بالهروب، منها الى الامام . بافتعال مشاكل اخرى ،  والانغماس فيها او العكوف على حلّ وهمّي لها ، بغية اهدار الوقت واستنزاف الجهد !   يحّف بهذا  ويواكبه ، انبثاق مستمر لمشاكل وتحديات ، اخرى جديدة  . وفي خضّم ذلك ، وبسببه ، يبدو العراق ، بالرغم من كل امكاناته ، فقيرا وبائسا وملعونا  بالاضطراب واللا استقرار  ، بالنسبة لمعظم جيرانه ، سواء من البلدان والشعوب التي تعاني من شّحة بل وندرة الموارد ، او تلك التي كانت ، حتى الامس القريب قطعة ،خالصة، من بداوة غابرة . انه بلد ، بالاحرى، شعب ، يعاني من اعاقة دائمة !

ان التحديات الاولى ، التي واجهت الدولة العراقية الحديثة منذ انشاءها ، ما تزال كما هي ، دون تسّوية او حل ، بل ان بعضها تفاقم ليتخذ شكلا او تحديا خرافيا ، فالمدينه  والحاضرة ، مثلا، والتي اعتمدت اساسا للتحديث والتمدن ، اندحرت ،  في مواجهة الريف ، واصبحت لدينا مدن  وحواضر تتّريف على وجه السرعة وتتغنى بالعودة الى البداوة . والعشيرة ، التي اريد لها ان تنصهر في اطار الهوية الوطنية ، ابتلعت وتمثلت هذه الهوية التي تتشبث ،الان ،بالبقاء ،متوسلة، العشيرة،  !!  التي تقف اليوم ،  بعد قرن من الزمان ، تقريبا ، بنفس الندّية والضراوة التي واجهت بها الدولة الحديثة ، في  بواكيرها . والمرارة التي تكلم بها "فيصل الاول " عن دولة ليس لها من القدرات العسكرية  ما للعشائر ، التي تميل ، ابدا ، الى الفوضى والتمّرد على الدولة ، يعاد انتاجها الان ، في ظل ظرف مختلف تماما ، اذ كان الزمان ، يومذاك ، زمان صعود وتألق الدولة ، اما اليوم فهو زمن صعود وتألق ، الجماعة الثانوية الصغيرة ، او يراد له ان يكون كذلك ، وهي ارادة جبّارة لايمكن الاستهانة بها ، ابدا !

لماذا كانت مسألة ، التقدم والبناء من جهة ، والفشل والنكوص ، من الجهة الاخرى ،لدينا ، دورية ، بهذا الشكل ، بحيث لانكاد نسير خببا حتى نعود الى نقطة البداية ، وما نكاد نهّم بالتحليق حتى نسقط مهيضي الجناح ؟  لماذا كان العراق ، ومازال ، جحيما لمواطنيه ، وكنزا يسيل له اللعّاب للباحثين عن الكنوز  من الاجانب ؟! لماذا  اقترن ويقترن حب العراق ، بالنسبة للغالبية الساحقة من العراقيين ، بالدم والموت  والسجن والمنفى وزنزانة الاعدام والتعذيب والشقاء والدموع ، ويكون ارض الفرص ، والكرم ، والسماحة ، والاريحية ،بالنسبة للغرباء ؟! لماذا اتّسم تاريخه الحديث ، ناهيك عن القديم والغابر ،  بكل هذا الالغاء القسري والعنف الاهوج والهمجية المنفلته ، رغم انه   من اكثر بلدان المنطقة او شعوبها التي تستند الى تاريخ  حافل و حضارة عريقة ؟ ماض ، علّم الانسانية ، بالفعل ، الحرف والفن والقانون ؟ هل ان عراقيي الحاضر هم  قوم اخرون لا صلة لهم بحضارة وادي الرافدين  البائدة ، موجة بشرية اخرى ، حلّت بارض يباب كانت حضارتها قد افلت و اندرسّت  منذ قرون ، وتتمسك بادعاءات لاتعنيها ومنجزات لاتعود اليها ؟

 يذكر الفيلسوف الاسباني، خوسيه غاز يت ، في مقدمة كتابه المّهم " تمّرد الجماهير " ،   قصة ، يقول انها شائعه ، من غير الحاح على مدى واقعيتها ، على حد تعبيره ، انما يعنيه من امرها ، ويعنينا ، اشارتها  ذات الدلالة الواضحة ، يقول ، انه  حينما احتفل بعيد ميلاد  ، الشاعر  الفرنسي  العظيم  فكتور هيغو ، اقيمت حفلة عظيمة في قصر الاليزيه ، حضرها ممثلو الامم ، كلهم ، مقدمين تهانيهم ، كان الشاعر الكبير يقف في قاعة الاستقبال الكبرى بجلال تمثال ،  مستندا الى ركن مدفأة جدارية ، وكان ممثلو الامم، يتقدمون، امام اعين الجمهور ليقّدموا تهانيهم ، يسبقهم صوت جهوري لحاجب يعلن عنهم :

( السيد ممثل انكلترا ....)  وكان فيكتور هيغو ، يقول بصوت درامي مرتعش وعيناه في الفراغ " انكلترا ، آه شكسبير !".

ثم يتابع الحاجب ( السيد ممثل اسبانيا ....) وفيكتور هوغو يقول " اسبانيا ، آه سرفانتس !" . ثم يتابع الحاجب ( السيد ممثل المانيا ....) فيقول فيكتور هيغو " ألمانيا ، آه غوته !" .....

ولكن ،  لمّا جاء دور سّيد بسيط ، ربع القامة ، ضخم الجثة ، ومتعثر المشية ، صاح الحاجب ( السيد ممثل مابين النهرين !)....

تلجلج هيغو ، الذي ظلّ ، حتى تلك اللحظة ، رابط الجأش وواثقا بنفسه ، ودارّت عيناه ،في محجريهما ،قلقتان وكأنه يبحث،  في الكون ،  عن شيء مناسب ،  ثم عاد  اليه الاحساس، بالثقة،  بعد ان وجده ، فرّد على تحّية السيد الضخم بلهجة مؤثرة : " مابين النهرين ! .....آه الانسانية !"

مالذي جعل ما بين نهرين ... الانسانية ،صورة من صور ، الفشل الانساني ؟!.... عند تفحص معظم الوقائع المؤثرة ، منذ عشرينات القرن العشرين حتى اليوم ، نكاد نلمس خيطا ناظما  اوحد..، خطا اسودا مميزا يخترق الصورة منذ  تلك البدايات ، حتى اليوم ، انه عدم النجاح في تحقيق توافق وطني حقيقي ، لحمة يغلّب فيها الجميع ، عراقيتهم بالاقرار المتبادل والمتساوي لكل منهم على اساس الحق والواجب ، والامثلة ، في الوقائع ،كثيرة .وتكمن في خلفيتها كل ما عشناه  ونعيشه من ا زمات، ظاهرة وباطنة  .

لقد تجاذب العراق ،واستقراره ، ولحمته ، مؤثران اساسيان ، يعود اليهما ونتج وينتج ، عنهما ، معظم ما شهده ويشهده من صراع ومآس ، هما : اولا التنافر الداخلي وعدم تسوية مشكلة الهوية الوطنية العراقية  تسوية حاسمة ومقنعة وعادله تحقق التلاحم والاندماج الوطني ، وثانيا ، المؤثر الاقليمي الذي حاول ويحاول ، دائما ، صياغة الوضع الداخلي والتأثير فيه وفقا لما يراه ويحقق مصالحه ويجد في قوى  الداخل استجابة وامتثال . ان حل تاثير هذين العاملين ،ايجابيا،  ولصالح العراق ومستقبله يقوم على اساس ديمقراطية "محتوى "حقيقية تتصدى لمشكلاته واولوياته،الفعلية ، لا المتخيلة  ،  بنفس جاد ومثابرة مخلصة ، لا ديمقراطية "شكل" او وسائل ، كالتي نعيش ، تعّقد الوضع اكثر وتفاقم مشاكله وتنتج المزيد من التحديات الشائكة بدلا من تقديم الحلول .ان  توزيع  القوّ’ة وتعدد مراكز القرار ، مثلا ، والذي اريد له ان يكون صمام امان ، ضد تمركز وتركز السلطة وتكرر الديكتاتورية ، انتج ، في ظروفنا ، الضعف والانقسام والاعاقة ، والمزيد من التشظي لدى مراكز القوة الثانوية التي تجد بقائها وديمومتها وتوسعها ، في الاعاقة الدائمة للتوّحد والانسجام وبناء القّوة او الارادة الوطنية  الجادة . ان ديمقراطية " الشكل " دون المضمون الفعلي هذه ، اصبحت مشكلة ، بدلا من ان تكون حلا او تصبح وسيلة للحل ، وبين ايدينا المثال الاخير  ، لكل ما تقدم من قول :  ارتفعت  وتفاقمت مطالب الناس المشروعة في سبيل  تلبية الحاجات الاساسية للحياة الحرة، الامنة، و الكريمة التي يعّقدها ويفرغها من محتواها وامكانية تلبيتها الفساد والجهل والبيروقراطية والاستغلال   ، لكن الجهات  المعنية بالاستجابة والحل ، رأت في هذا الامر اجندة سياسية  ولجأت الى التسويف والالتفاف . وجدت اجندات ومصالح ، عديدة ، داخلية واقليمية ، بالفعل ، في هذه الحالة فرصتها للدخول على الخط ، والضغط باتجاه ماتريد ، فاصبح الوضع ، حقا يشتمل على ماهو جاد ومشروع  وعراقي من جهة ومغرض ومبطن من جهة اخرى ،  لكن الحالة تركت تتفاقم ، تحت سمع وبصر المعنيين بالاستجابة ، وعلى مدى اشهر ، وكأن التفاقم هو المطلوب والتعقيد هو المبتغى ، واصبحت التظاهرة اعتصاما ثم عصيانا،  ثم انفجر الوضع الذي اصبح محل فعل يومي دؤوب وتصعيد مستمر لقوى العملية السياسية ذاتها ومصالحها المتناقضة وامسى الشعب والمطالب الشعبية ، مثلما كانت دائما ،وسيلة يمتطيها السياسيون واجنداتهم الى تحقيق مكاسب ذاتيه ومصالح حزبية ، ولم تجد السلطة  في افقها من حل للاشكال ، الذي تركته يتفاقم ويتفاعل وياخذ ابعادا تكاد تخرج عن السيطرة ، الا القوّة ومحاولة اثبات الهيبة ، في وقت متاخر جدا ، نجم عنه ماكان لابد ان ينجم عن الوسيلة الخطأ في الوقت الخطأ  مع الناس الخطأ ، وبدلا من تظاهر سلمي مشروع والاستجابة لمطالب شعبية عادلة ، نجد انفسنا، الان ، على ابواب اقتتال وشيك وافق احتراب ، مرعب !