"كاسترو" والقدرة النفسية!!

 

توفى "فيدل كاسترو" وهو في التسعين من عمره , وقد حكم كوبا لنصف قرن , وربما سيبقى يحكمها نفسيا لأجيالٍ متعاقبة!!

 

فما السر في هذا الزعيم الذي ثار وحمل مشعل ثورته إلى آخر لحظة في حياته؟!

 

زعيم درجنا على سماع إسمه منذ الطفولة , ونقرنه برفيق دربه "جيفارا" , ومضينا نسمع عن كوبا المحاصرة التي على مقربة من قوة عظمى , وهي على خلاف وتقاطع معها , لكنها تعيش بأمن وأمان , وتحافظ على سيادتها وقوتها وقدرتها على البقاء والعطاء , برغم ضنك الأحوال الإقتصادية والضغوطات المتنوعة المتواصلة.

 

وبعد أن كبرنا أخذنا نعمل مع أطباء من كوبا في بلادنا خصوصا في إختصاص العظام والكسور , فكان العديد منهم يعملون في المستشفيات والردهات الجراحية , كما أن كوبا من الدول الرائدة في ميادين اللقاحات ضد الأوبئة والأمراض السارية والمعدية.

 

لم أزر كوبا , لكن لدي أصدقاء كوبيون , يتحلون بالأنفة والكبرياء وعزة النفس , والإرادة الوطنية الحية الأصيلة , رغم أنهم قد غادروا بلادهم وعارضوا نظام الحكم , لكن إرتباطهم بالبلاد لا ينقطع.

 

وفي هذا الصباح تنشغل وسائل الإعلام العالمية بخبر وفاة "فيدل كاسترو" , وكأن الدنيا بأسرها وقفت ترنو إلى مسيرته , وكيف حقق هذا الصمود الطويل بوجه جارة تمتلك أقوى القدرات العسكرية والمادية , وهي الآن تتحدث عنه على مدار اليوم , وتتواصل بعرض أرشيف حياته.

 

يبدو أن الطاقة النفسية التي كان يتحلى بها ذات مناعة فائقة وقدرات نادرة لا تتوفر إلا عند القادة الذين يصنعون التأريخ ويؤثرون في مسيرات البشرية , وهذه الطاقة تمدهم بالقوة الفكرية والروحية والإيمانية الكفيلة بالتمسك بإرادة مستقبلية ذات كرامة وعزة وشموخ وإباء وكبرياء.

 

فالرجل ما انحنى للعاتيات وأبحر بذكاء وحكمة ووطنية , وحرص وحذر وإستقراء علمي وموضوعي لخطواته , وتحكم بإتجاهات بوصلة قراراته , فأوجد مَن أحبه وإتخذه مثلا وقدوة , ومَن عاداه وأنكره , لكن التأريخ سيجيب على الجميع ذات يوم.

 

وتمكن من الحفاظ على وطنه وشعبه , وأرسى العديد من المسارات والبرامج التي تواصلت لتساهم في البقاء الكوبي العزيز , وما تمسك بالكرسي حتى الموت , بل أعلن التنازل قبل عشرة سنوات , وبقي في مواضع تساهم في الحفاظ على مسيرة كوبا في لجج الأيام , وما تصلب حدّ الإنكسار , وإنما كان يعرف كيف يطوّع المواقف والتحديات لصالح بلده.

 

وهذا الزعيم أسدى النصائح لقادة عرب في أوقات الأزمات , وأرشدهم وحاول أن يوقظهم من غفلاتهم , لكن أكثرهم كانوا لنصائحه جاهلين , وعنه معرضين , حتى وصفهم بما يليق بهم من الأوصاف التي أثبتت الأيام صحتها.

 

وبعد ساعات من إعلان وفاته , راحت التوقعات تتوارد في وسائل الإعلام , عما سيحصل لكوبا بعده , وكأن القول يشير إلى أن النتيجة الحتمية ستكون كما حلّ ببعض دول الشرق الأوسط من تشظيات وتصارعات وحروب أهلية , ولا يعقل أن يتحقق هذا في مجتمع قاده زعيم مثله , وقد تميز بحكمته ونباهته وأفكاره الحضارية ونزعته الإنسانية المتوقدة الرائدة.

 

يموت الزعماء الأفذاذ وتحيا بلدانهم من بعدهم أقوى وأقدر , فالمجتمعات التي تلد زعماء بهذا الحجم لن تخيب ولن تنكسر إرادتها , بل تبقى حرة شمخاء.

 

وإن لم تصدّقوا فتأملوا الصين بعد وفاة الزعيم "ماو" , فمعدن الشعوب يتجلى بقادتها !!