توظيف الأمثال في القرآن ج/ 3 الهاوية..

 

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

الاسلام هوية الفرد المسلم والايمان مشروعه، والآيات تضعه بين اليقين والشك للتمحيص والتمييز، ليرتقي بايمانه ويزداد في يقينه، وبعد ان يصبح الفرد مؤمنا عليه ان يحافظ على ايمانه، فان تقلب الايام وصروف الدهر لن يكون منها بمأمن، وضغوط النفس والشهوة تلازمانه ما بقي حيا، وعدم معرفة نفسه وامكاناته والتقدير الخاطئ سوف تجعل منه صيدا سهلا، لنفسه اولا ولـ (ابي مُرة) ثانيا، فان النفس تعين الشيطان على العبد.. "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَاب السَّعِير".

في الجزئين السابقين كان المثلان من النساء، والغاية من ذلك بسبب حال المرأة وظروفها التي تحيط بها، فالمرأة المؤمنة وما يحيط بها من طغاة، وقدرتها على عزل نفسها وقلبها عنهم تكون مثلا للمؤمنين. والمرأة الكافرة وما يحيط بها من ايمان وتقوى، ولم تلامس قلبها كل تلك الآيات، وعناد نفسها واستمرار التسويف والمماطلة، جعلها من الغافلين. اما في المثل الذي يطرحه الباري عز وجل في كتابه الكريم المذكور في الايه انفة الذكر، فهي شخصية المتعلم العالم والمعلم ذو العقل المتجدد ذو الابعاد والاثار والادراكات التي سرعان ما انهارت، بعد ذاك الجهد المضنى والسنين الطوال من التعلم والعبادة. للآيات سابقة الذكر وقع وتنبيه وشدة وتحذير، من خلال الكلمات الواردة  فيها، وابتداء من كلمة نبا التي تشير الى خطورة الامر المذكور. فمن تأتيه تلك الآيات يسمو ويتعالى، ومن يملك الكرامات يكن سابحا في التسبيح والتهليل. فما الذي يؤدي بصاحب الآيات الى ان يكون وليا للشيطان. والامر الاخطر (فانسلخ منها) والانسلاخ لا يكون الابعد ان يتم بناء الجلد الجديد، فمن تكن عبادته غير خالصه لوجه الله فأن جلده الذي يغش به العباد سوف لن يغش به الله، بل سيضيق عليه، ولن يستمر في داخله وهذه اسباب طبيعيه في التكوين الجسدي لبعض الكائنات الحيه، واشبه تلك الكائنات بالمثل المذكور الافعى. وكذلك فكر الانسان ومعتقده ان لم يكن سليما.

للإنسان اعداء كثر على وجه البسيطة، واشد اعدائه عليه نفسه، واضعفهم عليه ابليس لعنة الله  عليه .فيجب ان يعرف من الذي يؤزه ويحزه في الامر الفاسد والعصيان؟ نفسه ام الشيطان! فعليه ان يعلم من يحارب؟. وفي  بعض الاثر قيل ان هممت بإمر طالح ولم تفعله ثم عاد اليك فاعلم انها نفسك، وان هممت بأمر طالح ولم تفعله وعاد اليك بغيره فاعلم انه ابليس لعنة الله عليك. وللآيات اثر على الانسان حسب قدراته، لكون الآيات لها بعدان معنوي ومادي يشابه تكوين الانسان، وللتوضيح نستعين بنظرية الفاعل والقابل، فهنا الفاعل كامل والقابل ناقص، ولا يمكن للقابل ان يحيط بالفاعل، فعلى القابل توسعة ذلك الوعاء -والقصد قلبه- ليستلهم كل ما يرقى به في سلم الايمان الصادق، ولتمام ذلك عليه ان يطهر نفسه وجسده من الحرام والصفات التي لا تليق بالعبد المطيع لمولاه .وهناك من هم اشد واطغى من العبد الابق الذين يدركون الشواهد ويؤمنون بها، لكن، لا يعطونها حقها ويصدون عنها .وقد اشار الله عز وجل في كتابه الكريم الى الفريقين اللذين منّ الله عليهما بالآيات والبراهين، فكانت ردود افعالهم كما تبين الآيات؛

"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)"

  وبعد التطهير المعنوي والمادي، يكون قد وضع امره على المسار الصحيح ليزين ذلك بالتقوى والورع والاجتهاد في جنب الله، فبالتقوى يحفظ امره وبالورع يبتعد عن محارم الله وبالاجتهاد يوطن نفسه على الصبر. وجل ما يتمنى العبد ان تكون علاقته بمولاه متينة، متصلة من كل الاسباب وهو التسليم والرضى لما شاء الله وقدر .وهذا الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه واله في معرض ما يقول من كلامه الشرف (اجوع فأسل ربي وأشبع فأحمد ربي) ونتمثل بهذه الابيات الجميلة لابي فراس الحمداني:

        فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالحَيَاة مَرِيرَة       وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ

       وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ       وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ

المستفاد من المثل في الآية المذكورة انفا:

اهمية المبنى الفكري للإنسان في العبادة .وهنا عليه ان يعرف ماذا يعبد؟ وان يتبع شريعة الله في العبادة. والغاية من العبادة ان لا تكون ذات مطامع دنيوية معنويه او ماديه فتقصر به الغاية وتنحرف به عن الجادة.

ان يعرف اعداءه جيدا، وان يميز بين نفسه وغيرها، وان يعرف قدرته وحدودها لكي يهيئ ادوات المقامة والرد، كلا حسب نوعه وصنفه، متسلحا بالثقة بالله والاعتماد عليه جل وعلا، والا يركن الى نفسه او قرين السوء، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام في القصيدة الزينبية

واختر قرينك واصطفيه تفاخرا   إن القرين إلى المقارن ينسب

ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا       إن الكذوب يشين حرا يصحب

وعلى الانسان ان يميز بين العطاء الالهي والاستدراج .وحين سئل الامام الصادق عليه السلام عن دلالة ان العبد على الطريق السليم وان ربه راضٍ عنه ام لم يرضَ، قال: (يجنبه معاصيه ويهديه الى مراضيه) وان كان استدراجا كانت النتيجة كما وصفته الآية الكريمة؛ (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).