حوار صامت ١



قد يكون ضربا من الجنون أن يكلم الإنسان نفسه أو يتحاور مع ذاته وهو السائل وهو المستفتى منه، ولكن حين لا يكون أمامك إلا الجدار فالأولى أن تكلم عاقل بدل أن تكلم الحجر، أحيانا نشعر برغبة أن ننفتح في شرح هواجسنا بدون قيود خاصة إذا لم يفهمك أحد أو لم يتحسس بمعاناتك أحد وهناك ثمة شيء يلح أن يخرج للنور، أو ربما لا أحد يحسب دقات قلبك التي تنبض بالعقل فتبدو كبعير تائه في صحراء من الجليد أو كطير بري محبوس بقفص، حاورت نفسي كثيرا وقد أخرج بقناعات وأحيانا بأفكار دون أن تترك بصمة لأنها ولدت في حاضنة مقفلة لتنام فيها مرة أخرى دون أن ترى شمسا أو زمهريرا، هذا ما يقتل...... الوحدة والتوحد والشعور بالصمت من حولك يدفعك لتخطي المعقول المقبول عند الناس، هنا سأبدا حواري مع ذاتي بكل شفافية وقد لا يرق لي بعض الجواب ولكن هي كما هي الحقيقة تقدم بدون أضافات ولا تزويق....
سؤال _ من أنت؟
أنا_ الغريب أن اسأل نفسي من أنا ولكن لا بد من جواب مقنع، قد أكون لحظة مرت في الوجود وهي لا تحمل هوية البعض أشر عليها بقلم والأخر أضاف لمسه وأخرون نقشوا ألوانهم فكنت أنا مزيج ما في اللحظة من فعل وفعل الأخر فخرجت كيانا فيه من التناقض أكثر من التوافق، محاصر دوما باللا توازن الذي يهز كل يوم واقعه وواقع واقعه فأبدو غريب الأطوار أحيانا وأحينا أشعر بأني في المكان المناسب، بالأخير انا عصارة وجودي ووجود أخرين وسأكون في مكان أخر جزء مقسم بين ذوات كل منها تملك مشروع ما، هكذا ولد الإنسان ويولد في رحلة لا حدود لها وأحيانا حتى لا طعم لها ولكننا مجبرين أن نمضي أما بصراع أو بإسراع لخط النهاية.
سؤال _ هل هذا هروب من الأجابة أم هو الواقع فعلا؟
أنا_ بالتأكيد هو الواقع، ليس لك إلا أن تحصي خطواتك من البداية للنهاية لتجد أن لم تخطو إلا خطوة واحدة فقط هي حياتك بكل ما تحمل من معان أو نتاج.
سؤال _ الخطوة القادمة؟
أنا_ نفس الخطوة السابقة وأمتداد لها وربما لا خطوة ثانية، هذا الأمر معلق بخيط خفي.
سؤال _ لو لم تكن أنت وخيرك القدر أن تختار شخصية أخرى فماذا تختار؟
أنا _ ربما سأختار أن أكون أحد أتباع بوذا أو لربما كنت أتمنى أن أكون أبو ذر الغفاري ولا أكتفي بالصراخ وأموت بالربذة، كنت سأعلن العصيان وأقتل بين يدي جلادي وعيون الفقراء تمر من قربي وتقول كم هو مجنون أبو ذر.
سؤال _ هل عشت روحيا في زمن أخر؟ إذا كانت الأجابة نعم هل تؤمن بتقمص الروح مثلا؟
أنا_ في الشق الأول نعن أنا عشت في كل الأزمان وقد يكون جسمي مركب من عناصر لأجساد عاشت وتفاعلت مع زمانها ولكنني حين أقرأ التأريخ مثلا، أو أعيش أجواء حدث ما بالضبط أكون أحد أبطال واقع الحدث وأحيانا حتى أشم مثلا رائحة الدخان أو أسميع صوت من واقع الفعل وكأنني في لحظته، هذا لا يعني أنا مؤمن بالتقمص أبدا، ولكن لأننا كأجساد هي مواد معادة لأجساد من قبلنا فكل فرد فينا هو تركيبة من عناصر عاشت في أزمان مختلفة، والمادة بطبيعتها تحمل معها رنين ما جرى دون أن تتخلى عنه أبدا.
سؤال _ هل من الممكن أن يكون الإنسان وليد كل العصور؟ طبعا بمعنى أنه أبن الزمن وليس صنيع البيئة المحيطة.
أنا _ نعم هو الإثنان فكما قلت الإنسان هذا الكائن المتجدد ليس وليد منفصل عن سلسلة أباء وأبناء فهو من ناحية التكوين حلقة من سلسلة ومن ناحية البناء البدني والنمو الطبيعي للبدن ضمن سلسلة أخرى، السلسلة الأولى معلومة ومنتخبة علميا وبطريقة لا غبار على أصوليتها، أما السلسلة الثانية فكل ما يساهم في تربية ونماء وحفظ البدن هو في طريقة أو أخرى متصل من عوالم متعددة أخرى، فمثلا عندما تتناول فاكهة من أفريقيا ولحم من الهند والحليب من الدنمارك والرز من أمريكا، بهذه التوليفة فأنك تنقل خصائص بشرية عبر سلسلة الغذاء إلى بدنك وقيامة شخصيتك، فتتحول من حيث لا تعلم إلى كائن عالمي.
سؤال _ ما مصير الإنسان بعد رحلة الحياة؟ طبعا لا أعني النهاية المعروفة بل من وجهة نظر خارج المعتاد؟
أنا _ الإنسان وكل كائن وجودي لا يفنى نعم يهلك يتحول يتفتت إلى جزيئات وذرات أما فناءه فهذا هو المستحيل، متأكد أن حتى عطر الإنسان الخاص وصوته وأشعاعاته الفردية تبقى في هذا الكون القريب وجسده في مكان ما سيتحول في زمن ما إلى عنصر أخر، قد يصبح جزء من شجرة أو حجرة تبنى أو سمكة في نهر، توقع أنك بعد ألف عام سيكون أعظم ما فيك من خلايا الآن ستكون جزء ما في منظومة مادية في مكان ما، كما كان غيرك قبل الأف السنين قد تحول إلى بترول أو شجرة صنع منها كرسي أو ورقة يكتب بها حروف نور أو شر، المهم الإنسان كبقية الكائنات لا يفنى بل يذر.
سؤال _ العقل أولى أم الروح في بناء الشخصية الإنسانية؟
أنا _ من المؤكد أن العقل هو الباني ولكن من غير الروح القضية أصلا غير ممكنة الحدوث، النظام الإنساني العملي مركب ومترابط ومتصل، لا يمكنك أن تؤمن بجانب وتترك جانب أخر لأنك بذلك لا ترى الصورة إلا من جزئها الذي يقابل بصرك، هذه خديعة الروح أصلا هي القوة الفاعلة والمفعلة لكل طاقات وأنشطة الجسم المختلفة بما فيها قوة العقل.
سؤال _ في صراع العقل مع الواقع هل هو صراع طبيعي أم صراع تناقضات؟
أنا _ السؤال فيه فخ فكري، العقل لا يدخل في صراع حتى يكون هناك تناقض أولي، متى ما أستبان هذا التناقض أصبح من الواجب على العقل أن يتحرك لبيان أسباب التناقض أولا، فليس كل عدم قبول عقلي هو تناقض هناك مثلا سوء التقدير وهناك أيضا سوء في الفهم، التناقض يكون حين يعجز العقل عن التفسير والتبرير في قضية يتبناها الواقع ولا يجد العقل سببا ما لقبوله بالشكل الطبيعي، الصراعات هي أختلالات في التوازن بين نظرة العقل الطبيعية للأشياء وبين أستحقاقات الواقع كنتائج، أحيانا يتعجز العقل عن المضي بالصراع ويستسلم للواقع وأحيانا يتصدى بقوة، العقل الحساس المركب هو من يقود التمرد ويتمرد على قيادة الواقع، لذا يقولون أن الفكر الحر هو دوما في صدارة الصراع، أما الفكر التسليمي المتسامح مع الواقع هو وصف للعبودية العقلية.
سؤال _ الزمن حاكم على الحركة الوجودية ولولا الزمن لا يمكننا قياس أي تطور أو تجديد، السؤال هل الزمن وعي وجودي أم حقيقة وجودية؟
أنا _ الزمن وعي وحقيقة، حينما يدرك العقل ويفهم أن الزمن حركة لا تتوقف ولا يمكن أن تتسامح في السيرورة الذاتية لها، يتحول هذا الفهم إلى وعي يقيني يقود العقل إلى النتائج المنطقية وأولها أن الزمن ليس أعتباريا محضا، بل جزء من وجود الوجود كمادة منفعلة تتحرك ضمن منظور وعالم شمولي متكامل ومترابط، هذه حقيقة الزمن حينما تكون المادة تعني مكان والأخير تعني زمن تعني لحظة زمكانية قادمة.
سؤال _ هل العلم من قاد للفلسفة أم الفلسفة هي من قادت للعلم؟
أنا _ من البديهي قبل العلم والفلسفة كانت هناك الجربة والمحاولة والفهم ثم الفهم المركب ثم التقرير، في مرحلة ما بعد التقريد تحرك العقل باتجاهيين الأول جمع النتائج التجريبية وتصنيفها حسب عامل مشترك وهنا ولد العلم، وفي الجانب الأخر قاد العقل التجريبي نفسه في رحلات تأمل عميقة مستخدما البديهيات والنتائج والتجارب للبحث عن علل جامعة، عن طرق ربط بين هذه المسميات ومحاولة معرفة لماذا وكيف ومتى وإلى أين، هذه الرحلة التأملية لاحقة للعلم ومستفيدة في بنائها تطورت وتعاظمت لتكون نظام عملي عقلي ونظري في تقريراته سميت بالفلسفة، إذن العلم والفلسفة هما أبناء التجربة ولا ضرورة أكثر لهما من ملاحظة التجريب وممارسته بلا حدود.