توطئة لست معنيا هنا بالاسباب أو الدوافع الدينية،فتلك من اختصاص رجال الدين وهي محترمة ولا يحق لأحد المساس بها لكونها تتعلق بحرية الدين والمعتقد،انما الذي يعنينا هو دور الطقوس الدينية في التحكم بسلوك ومشاعر الجموع الغفيرة من الناس،وتفكيك تركيبتها السيكولوجية من حيث تكرارها وقواعدها ودلالات رموزها،وامكانية توظيفها لخدمة من يملك السلطة والثروة في المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع العراقي بشكل خاص. في معنى (الطقس) وفقا للـ(المعجم الوسيط) فان مفردة "طقس" تعني الكيفية التي يتمّ بها أداء الأنشطة المقدّسة وتنظيمها في إطار احتفالي، ويشار بها في الديانة المسيحية إلى "النظام الذي تتمّ به الشعائر والاحتفالات الدينية المقدّسة". ومن حيث اصلها اللغوي فانها تعني في اللاتينية "الأنشطة والأفعال المنظمة التي تتخذها جماعة ما خلال احتفالاتها"، فيما تعني باللغة الانجليزية Ritual الشعيرة الدينية وفقا لقاموس المورد،وفي المعنى ذاته باللغة العربية ايضا.ومع ان الطقوس تشمل ايضا النشاطات الرياضية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية (طقوس الزواج مثلا)..فان الذي يعنينا هنا هو التحليل السيكولوجي للطقوس الدينية،من حيث "قواعدها" التي تنظم الممارسات المقدسة للأفراد، ودلالات رموزها، وقدرتها على التحكم في السلوك، وسيطرتها على اللاوعي الجمعي للجموع. ولكي تكون الطقوس مؤثرة في الناس لابد لها أن تكون منظمة بطريقة معينة، ومتكررة بشكل رتيب، ويجب أن يلبس المشتركون فيها ملابساً معينة، ويرقصوا او يؤدوا حركات او افعالا معينة..بكاء،لطم..، ويرددوا أهازيج او اشعارا محفوظة،تثير لدى المشاركين فيها انفعالات تتصاعد احيانا الى حالة جيشان مصحوبة باتقاد المشاعر الجماعية وهيجانها في احياء ذكرى اوتمجيد صاحبها. كان (ايرفينغ كوفمان) قد اولى الممارسات الجماهرية اهتماما خاصا هدف فيه الى الكشف عما تخفيه من دلالات رمزية، والانتظام فيما يبدو للآخرين "فوضى"، وانصياع الناس الى التقيد والانظباط بافعال دون ان ينتبهوا الى انتظامها الرمزي.ومن جميل ما توصل اليه ان الناس كائنات لا يمكنها العيش الا بواسطة طقوس تنظّم سلوكها ،وان المجتمع مسرح يومي تؤدى فيه الأدوار بشكل منتظم وفق طقوس تفاعلية. وخلص آخرون الى ان الإنسان ،من منظورأنثربولوجي،هو كائن طقوسي بامتياز مثلما هو كائن رمزي،وان اكثر الطقوس تأثيرا فيه هي الممارسات الشعائرية ذات الدلالات الرمزية المنظّمة التي ينخرط فيها النّاس بكثافة، وتوحدّهم باختلاف اعمارهم وجنسهم ومستوياتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وما تنفرد به الطقوس الدينية هو ممارستها لحركات ورموز وضوابط وتكرارات تتوحّد وتنسجم في ايقاعات درامية تميز جموعها الغفيرة وكانها تأتي بتعليمات مشددة من مخرج صارم، تكون فيها مؤطّرة بزمن محدد لمناسبة دينية او واقعة تاريخية ذات صفة دينية. ويمكن وصف الطقس بانه خطاب مصاغ بلغة موجزه مشحونة بانفعالات توحّد الجموع وتضبط أداءها كما يضبط قائد الاوركستيرا أداء العازفين والمنشدين. تساؤلات خطيرة تثير الطقوس الدينية التي تظم جموعا غفيرة متنوعة، تساؤلات نراها نحن السيكولوجيين خطيرة من حيث انعاكاستها على الفرد والمجتمع والوطن،نوجزها بالآتي: • هل تعمل الطقوس الدينية على تعبئة الجموع وشحن الوجدان وتجييش الوعي الجمعي بما ينسجم مع متطلبات العصر أم ضدها؟ • هل تنسجم الطقوس الدينية الجماهيرية مع القيم الديمقراطية ام تعارضها؟ • هل ينجح السياسييون دائما في توظيف الطقوس الدينية لصالح بقائهم في السلطة ام ان الطقوس الدينية يمكنها ان تطيح بالسياسي الذي يستغلها لمصلحته الشخصية ؟ • هل تعمل الطقوس الدينية على اضفاء الشرعية على سلطة غير عادلة ام تعمل على سحبها منها؟ • وهل بامكان الطقوس الدينية مقاومة عصر سيطرت فيه التكنولجيا والعقل النفعي، ام انها تضعف امامه وتنحسر؟ • وثمة اشكالية جدلية تخص ما اذا كانت جميع ممارسات الناس في الطقوس الدينية،عقلانية ام غير عقلانية،صحية نفسيا ام غير صحية نفسيا؟ لقد راجعنا كتابات عدد من السيكولوجيين والاجتماعيين والمفكرين الذي كتبوا في الطقوس الدينية وسيكولوجيا الجموع( اميل دروكاييم،فولتير،ارك فروم، ميرسيا إلياد، فولتير، روبار ميرتون، رولان بارت،يونغ..) فوجدنا انهم ركزوا على ثلاث عمليات مصاحبة للفعل الطقسي هي :(الشحن الرمزي والتقعيّد والتكرار)..تعمل بشكل تفاعلي على تثبيت قواعد لأحياء واقعة مضت تشحن بالقداسة، وتسرتجع احداثها برموز تلهم الذاكرة الجمعية بدلالات ومعاني لها قيم عليا،تمكّن الممارسين لها ان يعيشوا زمنين في آن واحد: زمن اسطوري متخيل،وآخر حقيقي فعلي..والذي يحصل لحظة التقائهما ان الزمن المتخيل يوقف الزمن الفعلي، وعند "وقوف الزمن" تنشط آلية التكرار والاسترجاع المميزة للطقس. كان تنبؤ "دوركايم" صحيحا يوم قال :(سيأتي يوم تعرف فيه مجتمعاتنا لحظات من الفوران الخلاّقة، تنبثق من خلالها أفكار جديدة وتتبلور صيغ صالحة -خلال الزمن- لتكون موجّها للإنسانية..وتثبت أنّ في عمق الذات الفردية ذات جماعية كامنة تجعل هذه الممارسات الطقوسية الخلاّقة تستفيق)..فيما اوضح "جلبار دوران" آلية التكرار المصاحبة للطقوس في علاقتها بالزمن بقوله :(اننا حين نكرر ونعيد الأفعال الطقوسية،بحسب القواعد المتعارف عليها،يعني أننا نحيي زمنا ماضيا ونقاوم تجدد زمن حاضر). وفي المعنى ذاته توصل "بيار بورديو" الى ان (تكرار الإتيان بشعائر الطقوس الدينية بحسب توقيتات زمنية،أسبوعية،سنويّة..، يعمل على ترسيخ المعتقد في "تطبع" الذهن والجسد، لأن الاستعدادات (dispositions) والطباع تترسّخ تباعا عبر عمليات التكرار والتطويع المستترة، وخاصّة تلك المصحوبة بالشحنات الروحية والوجدانية). وهذا يعني ان تكرار الطقس بعمليات الشحن الروحي والنفسي الاجتماعي يؤدي الى انتقال قواعدها عبر الاجيال بعمليات تنشئة واكتساب ثقافي، يفضي الى ترسيخ المعتقدات والقناعات والميول في الجسد والذهن معا. ويرى الأنثربولوجيون وعلماء الاجتماع الذين انشغلوا بتحليل الطقوس، ان السبب الرئيس في صيرورتها ظاهرة يعود الى (الاختلال) الناجم عن التغير السريع في الحياة الاجتماعية للناس،وان ممارسات الطقوس تأتي ردّا لردم هذا الخلل وسدّ ما ينجم عن التغيرات من اختلالات.وبتعبيرنا نحن السيكولوجيين، انها تعمل على اعادة توازن نفسي تمّكن الفرد من التوافق الحياتي والاجتماعي وخفض الخوف الناجم من قلق وجودي في عالم متغير.ويبدو لنا ان هذه (الأختلالات) النفسية ازدادت في زمن التكنلوجيا وطغيان البرمجيات وضغط الأزرار،نجم عنها حالة (اغتراب) عند الانسان العربي..عالجها بآلية نكوصية،فبدل ان ينشط للتوائم مع واقع متغير (رقمي)..نكص الى ما كانت تفعله الأديان بوصفها أداة او وسيلة تمنح الأنسان الشعور بالاطمئنان..وهذا ما تفعله الطقوس الدينية في المجتمعات العربية..أنها تنشّط اللاوعي الجمعي العربي لمعالجة الحرمان والأغتراب والشعور باليأس من خلال استحضار الماضي والشكوى لأشخاص قضوا نحبهم والتوسل بهم لحل مشاكلهم والتخفيف عن معاناتهم. وثمة تساؤل افتراضي يجيب عن التساؤلات في اعلاه: لو ان الانسان يعيش حاضرا يمنحه حياة كريمة ويؤمن احتاجاته المادية ويحرره من الخوف وقلق المستقبل، فهل تبقى الطقوس الدينية بهذه الجموع الغفيرة؟. يقدم عراق 1959 اجابة عملية،ففي ذلك العام كانت الحكومة قريبة من الشعب،وفيه منح العراقيون عبد الكريم قاسم لقب (ابو الفقراء)..لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية،واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية ،بفضل اختياره لوزراء وفقا لمعايير الكفاءة والخبرة والنزاهة ،ولأن الرجل كان يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته. والذي حصل عندها ان الناس توحدوا سيكولوجيا بحاضرهم وما عادت بهم حاجة لأن يستحظروا الماضي ويتوسلوا باشخاص قضوا نحبهم..ولهذا ما كانت هنالك طقوس دينية بهذه الجموع الغفيرة،بل كانت مناسبات احياء ذكرى لرموز دينية عظيمة تجري خالصة لأصحابها لتشبع فيهم محبتهم وتقديرهم اللامحدود لتلك الرموز الخالدة. والمفارقة،ان العراقيين في الزمن الديمقراطي الذي يفترض فيه ان يحقق لهم حياة كريمة،صاروا يتوسلون بمن يقصدون زيارته في جموعهم ..تحقيق مطالب حياتية وخدمات تخص الحكومة..كنا وثقنا اجاباتهم على السنتهم في احداها(2007) بالآتي: • (نريد الأمان..أولادنا تكتلوا " قتلوا " واحنه عايشين بخوف والى متى نظل اليطلع من بيته ما يدري بروحه يرجع لو يموت. • ونريد الكهرباء..الله أكبر طكت أرواحنا. • ونريد السياسيين يتصالحون ويديرون بالهم على الشعب مو يظلون يتعاركون على الكراسي والشعب حال الضيم حاله..يزي عاد تره شبعنا تعب.) ومن ذلك التاريخ (2007)والى الآن(2016) وهم يعرضون مظالمهم على الرموز الدينية دون ان يتحقق منها شيئا،بل ازدادت سوءا.وطبيعي ان لا شأن للامام في ذلك،بل ان أي امام (شيعي او سنّي) لو خرج الآن ودعا المتخاصمين من السياسيين إلى المصالحة لما أطاعوه،ولو أنه حظر اجتماعا واحدا للحكومة لراعه أن يجد المسؤولين عن رعيته على هذا المستوى من الفساد والفتنة والظلال المبين. والحقيقة السيكولوجية الخفية هي ان اللاشعور الجمعي في العقل الشعبي المشحون بانفعال الطقس الديني،يميل الى أن يكون استاتيكيا يكره التغيير ولا يكون على توافق مع الديمقراطية..ولن يتحرر هذا العقل إلا بذهاب سياسيين خبثاء يوظفون الطقوس الدينية للبقاء في السلطة، ومجيء حكومة يجد الناس في ظلها الخلاص والعيش بحياة كريمة آمنة ،وعندها سوف لن تكون غاية الطقوس الدينية..دنيوية، او متعة سيكولوجية في استحضار الماضي هربا من الحاضر،او عرض مظالم على اشخاص قضوا نحبهم،بل اشباع حاجات روحية آخروية وتعبير عن مشاعر حب وتقدير خالصين لرمز ديني يعدّ انموذجا للقيم الدينية والأخلاقية..وتلك هي مهمة العقل التنويري في العراق..علمانيا كان ام دينيا..لم ينتبه لها بعد!
|