حوار صامت ٣

سؤال _ هل الجهل هو القاعدة الأساسية التي تتولد منها المعرفة؟
أنا _ الجهل ليس المضاد النوعي للعلم بمعنى أن الجهل هو الطرف المقابل للعلم، بل يبدأ الإنسان رحلة المعرفة من نقطة التساوي الصفرية التي لا تعني الإيجاب ولا السلب، لأن الجهل بمعناه الفلسفي تخلف المدرك العقلي عن أكتشاف ما هو مجهول وليس أفتراضه فقط، مثلا الطفل حينما يتعلم اللغة تدريجيا فهو لم يكن جاهل باللغة ولكنه غير مدرك لها بحدود ما، فلو كان قد عرضت على المدركات ولم يستطيع أن يتعلمها فهو هنا جاهل باللغة طبعا بالمستوى النسبي، والمعادلة المعرفية تبدأ من الصفر خط الشروع ثم التعلم ثم مرحلة ما بعد التعلم، أي فشل في هذه السيرورة الطبيعية يمكننا أن نسميه جهل، وهنا نعود لنؤكد أن الإنسان في لحظة واحدة وفي موضوع واحد ممكن ان يكون جاهلا وعالما به ما لم يحيط بالموضوع كاملا ومع ذلك يبقى هناك هامش ما للجهل بما لم يتعلمه أو عجزه أن يحيط به علما، فالمعرفة تولد من التعلم وليس من العلم.
سؤال _ هل ينسحب هذا التعريف لكل المتناظرات اللفظية والدلالية التي نتعامل بها ونعرفها كالليل والنهار والبرد والحر والوجود والعدم؟
أنا _ نعم لا تناظر بين الليل والنهار ولا بين البرد والحرارة، هناك عامل مشترك بينهما هو الذي يحدد الماهية التوصيفية مثلا البرد ليس فقدان الحرارة من الجسم بل عدم إمكانية الجسم أن يبعث بموجات حرارية تشعر المتحسس بها، الحرارة بالعكس تعني مزيدا من أنبعاث موجات حرارية أعلى من معدل التحسس الذي هو صفر فيشعر المستقبل الحسي أن هناك حرارة في الشيء، التناظر الضدي هنا بين القدرة وعدم القدرة على أشعار المتحسس، فيكون لدينا بارد وغير بارد، وحار وغير حار مع ملاحظة أن ليس كل حار هو بارد فالجسم الذي درجته واحد مئوي هو حار لكن أنبعاث الحرارة فيه ضعيف أما البارد فهو الذي درجة حرارته _1 وليس غير ذلك ونزولا إلى أكثر وبحسب ما يستطيع هذا الجسم البارد أن يعجز عن بعث حس ما للمتحسس المقياس.
أما بالنسبة للوجود والعدم فهذا موضوع أكبر ولكن وفقا لنفس نسق الفهم السابق، نقول عندما لا ندرك وجود شيء بالمدركات الطبيعية لا يعني عدم وجودها بمعنى عدم الوجود لا يساوي العدم، فغياب الشخص (س) في اللحظة (ص) لا يعني عدم وجوده مطلقا بل قد يكون في مكان أخر، العدم هو نفي مطلق للشيئية وحتى نفي كامل لتصوره أستنادا للمقدمات القياسية المخزنة في الذهن والتي بموجبها تعرف الماهية التوصيفية، العدم (ليس كمثله شيء) لأن أي ربط بقياس شيئي يعني أعطيناه وجود ما.
سؤال _ ألا يعني هذا الكلام أننا نعود للمضادات البسيطة أي الشيء ونفيه مثلا قوي وغير قوي وضعيف وغير ضعيف بدل القوي مقابل الضعيف؟، ألا يعني هذا أن النظائر الضدية التي نتعامل بها على أنها كذلك هي تحريف لفهم الماهية الوصفية؟
أنا _ نعم النظائر الضدية هي كما قلت التي تبدأ بغير، مثلا القوي هو كل من يملك القدرة والطاقة على أحداث تفوق مقابل الأخر بتوصيف معنى القوة الجسدية أو العقلية مثلا، ولكن عندما يكون الإنسان طبيعي بالمقياس العام أي لا قوي ولا ضعيف كيف يمكننا أن نصفه؟، هل نصفه غير قوي أو غير ضعيف؟، هذا تحديد مهم وأساسي، الضعيف هم من لا يملك القدرة على التفوق مقابل مساوي له، أي أن شخصين يمارسان رياضة المصارعة ويتمتعان بنفس المواصفات والقياسات، الذي يستطيع أن يبرز التفوق فهو قوي ولكن الأخر ليس ضعيفا بمعنى عدم أمكانيته أن يبرز نفس المستوى من التفوق قد يكون أقل بدرجة فهو غير قوي بالنسبة للشخص المتفوق ولكنه قد يكون قوي في مقابل شخص أخر، وهكذا في مفهوم الضعف.
سؤال _ من أنتقاله أخرى يا ترى ما تعريفك الخاص للثقافة؟، وهل هذا التعريف نهائي أي بمعنى أنه قياسي؟
أنا _ الثقافة لها مفاهيم وأطر جامعة وصفية أو ماهوية بناء على الزاوية التي ينظر منها المعرف، من هنا تعدد التعريفات والتوصيفات والتي قد لا تتفق على خط مشترك أو قاسم مشترك يمكن أن نعتمده كجوهر في تحديد الدلالة، على العموم ومن خلال فكرتي الشمولية عند النظر لأي موضوع بغية أكتشافه أجد أن تعريف الثقافة، هو القدرة على تجسيد المعرفة الذاتية (المتحصلة طبيعيا أو المكتسبة بالتلقي والتجريب) في معايشة الواقع بأفضل صورة وتطويره وإثراءه بالأفكار ليكون قادرا على مجاراة الزمن وأستحقاقاته، فكلما نجح الإنسان بزج المعرفة بجميع أنواعها في الواقع وبالتالي تأكيد على نتائج هذا الزج تحسينا أو تطويرا يكون بالضرورة كائن مثقف خدم المعرفة والواقع وذاته، وهذا ليس تعريفا قياسيا بل تعريفا وصفيا شموليا قابل للتطور والإثراء.
سؤال _ الثقافة التي لا تهتم إلا بكيانها الذاتي أو ما يسمى بثقافة النخبة قد تخرج من هذا التعريف الشمولي؟
أنا _ ليست هناك ثقافة نخبة وثقافة أجتماعية، بالحقيقة هناك مستويات تتعاطى مع الفكر والمعرفة حسب ما يمكنها أن تؤثر فيه، الثقافة النخبوية ثقافة صانعة وثقافة أسية بالرغم من تعاليها ولكنها تبقى ضرورية وملحة لبناء الثقافة الوسطى التي تلعب دور الحلقة الواسطة والرابطة بين المجتمع عرضا وبين الفكر والمعرفة والعلم طولا.
سؤال _ هل العرب عامة والعراقيون خاصة يتعرضون فعلا لما يسمى الغزو الثقافي الموجه لغرض غسل العقل العام من مفردات وقيم وإبدالها بوعي مستغرب؟
أنا _ الحقيقة ليس هناك ما يسمى بالغزو الثقافي وكل القضية أن الثقافة العربية بسبب بنيويتها الذيلية وتبعيتها للواقع السياسي والأجتماعي والسلطوي بقيت عاجزة عن رفد الفكر الإنساني بمنتج فكري معرفي وعلمي قادر على المنافسة، هذا أولا ثانيا عندما نقرأ الأدب والفكر والثقافة الإنسانية في جانب ذاتي يتقبل هذه القراءة وما ترسبه في العقل الواعي واللا وعي العميق لأنها لا تحتك ولا تتعدى على حدودنا وخطوطنا الحمر، هذا يساهم ويساعد القارئ العربي أن يقرأ وينحاز للأدب والفكر والثقافة الخارجية لأنها تمنحه مجال أوسع للحرية أو بمعنى أصح شعور بالحرية لأنه تتكلم عنه بصيغة البعيد، أما ما يسمى بالوعي المستغرب ألاحظ أن وعينا العام مصادر أو مأسور بالمقدس والمحرم لذا فأي وعي مضاف