حكايات جاسم

بين العبقرية والجنون خيطٌ مهين ولا يَكادُ يبين ، فتارة هو خطيب لاذع وسياسي محنك ، وتارة أخرى هو لا شيء من هذا ولا ذاك .

هذا التناقض الكبير في شخصيته جعله محط إعجاب أبناء مدينته ، وقد انقسمت الآراء من حوله ، فمنهم من يري انه عبقري قد أحاط علمه بكل مجريات الأمور ويستطيع ان يُميَّز منها الصالح والطالح ، وآخرون يرون في شخصيته ( المجنون ) الذي لا يعي كثيراً مما يقول .

وأن هذا الاختلاف والجدل الذي يثار حولهُ جعلهُ أشهر من نارٍ على علم ، لذلك فلم يتبع أسمه بصفة ملازمة كما هي لدي أقرانه فظل اسمه بلا صفة , (جاسم) فهذا الاسم يكفي أن يدلك عليه أي شخص في المدينةِ وكأنهُ لا يوجد في هذهِ المدينةِ مَنْ يحمل هذا الاسم غيره ، لذلك توجبَّ علي الذين يحملوا هذا الاسم أن يبحثوا لأنفسهم عن صفة تلازمهم وكنية تلحق بهم ليميزوا بها عنه و إلا فان (جاسم) يعني صاحبنا ولا أحد سواه .

هكذا هم العظماء دوماً يكتفون بأسمائهم وقلما يحتاجوا إلي صفةٍ او كنيةٍ يكنون بها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر (أديسون ، زرياب ، تولستوي ، هتلر ، جاسم) أسماء تدل على أصحابها .و( جاسم) لا يقبل أية صفة فمثلهُ مثل الشمس لا تحتاج الي دليلٍ أو إثبات على وجودها . لكن الشمس قد تحتاج إلى الـ(التعريف) وصاحبنا جاسم لا يحتاج حتى الى الـ(التعريف) فهو جاسم وحسب .جاسم ذو وجه طفولي وابتسامة غارقة في مكرها – لم أرَ أجمل منها في حياتي – عنقه ُ ممتد مع تراجع عظم الترقوة وما لحق بهما من عظام الكتفين سببت له انحناءً بسيطاً في منطقة الظهر له عينان سوداوان صغيرتان وقد تجعدت اطرافهما مما سبب له برز الوجنتين يرتدي دشداشة غامقة يشّد وسطها بحبل ٍ متين . والغريب في الأمر إن جاسم لا يحمل معه عصى او حجارة كما هو الحال لدي رفاقه (عودة ، عبد ، أوعبد الحسين) ولا يستعمل كلمات نابية الا إذا اتجهت صوب الحكام والمستبدين . المدينة كلها تعشق جاسم وتتمنى أن تتجاذبهُ أطراف الحديث علي طريقة (الرأي والرأي الآخر في الاتجاه المعاكس ) الا انه لا يكاد يستقر في مكان حتى يرحل الي مكان آخر ، فما ان يرمي بقنبلته البلاغية حتى يسرع بتلقفِ صداها في مكانٍ اخر من المدينة ، فهو يعد نفسه دائرة إعلامية او هو محطة فضائية متنقلة وفي نفس الوقت هو حزب معارض حتى في زمن الحزب الواحد، له صولات وجولات مع رجال الأمن وإخباره تناقلتها الألسن ، فمنذ سنين طويلة وقف جاسم عند مفترق الطريق بعد أن أزاح رجل المرور من مكانه واستظلَّ بمظلته ورفع صوته ايذاناً ببدء خطبته البتراء-  فهو ينتمي إلى مدرسة زياد بن أبيه في فن الخطابة – : يسقط السيد الرئيس ، يسقط السيد المحافظ ، تسقط الحكومة الموقرة .

لم يكن جاسم يعرف بان كلمة السيد يجب ان تحذف حين يسقط الرئيس فقد ظن أنهما كلمة واحدة او أنهُ قد اعتاد سماعهما معاً , او ظن انه اسم مركب مثل (عبد الله و نعمة الله وفرج الله) ، وقد أبقي وقار الحكومة على الرغم من رغبته بإسقاطها .

وبأسرع من الريح وصلت عربات رجال الأمن وضربوا طوقاً امنياً حول المكان واقتادوه الى مكانٍ مجهول . وهناك دارت دائرة السوء عليه ضرباً وشتماً وتعذيبا وأطلق سراحه بعد مدة ليس لعدم كفاية الأدلة بل لحاجة في نفس مدير الأمن ، فقد انزلوه في المكان نفسه الذي القي القبض عليه وهناك رفع جاسم صوته الجهوري : يعيش السيد الرئيس ويسقط الشعب المسكين . وبعد ان فرغ من خطبته التي امليت عليه او أوحيت اليه اخرج جاسم جسده المدمي أمام الجموع لعلهم يعرفوا سر تغييره المفاجئ وهذا الانقلاب في فكره الثوري . وما ان اندملت جراحه وسكن أنينه حتى عاد جاسم إلى ما اعتاد عليه من شتم وسب للحكام المستبدين .

حين يبدأ جاسم خطبته ما عليك سوى ان تبتعدَ أميالاً عن منبره لئلا تُتهم بأنك المحرض له وقد تتهم بأنه يستقي علومه ومعارفه منك لذلك فإذا أردت ان تحيا سليما معافى في مالك و اهلك وبدنك فما عليك الا ان تبتعد عن جاسم وتصم أذنك عن خطاباته البليغة، وقد كانت لديه أهزوجة شهيرة قد أتقن صنعها لنفسه وأجاد في بلاغتها حيث تقول ( هذي حكومتنا كلها حرامية ) ومن اقوال جاسم المأثورة بعد دخول القوات العراقية الى الكويت حيث كان يغني في الشوارع ( اللي شبكنا يخلصنا ).

يلاحظ علي جاسم عداؤه الشخصي لكل من يتولى منصب المحافظ أياً كان انتماؤه يمينياً متطرفاً او يسارياً معتدلاً ليبرالياً كان ام راديكالياً ، فهو يرى ان وضعه لم يتحسن ، فلم يأت إليه من يربت على كتفه او يمسح علي رأسه ليثمن نضاله المستميت عبر سنيهِ الطويلة حيث دفع ثمنها من عمره ودمه وعرقه وصدى صوته الذي مازال يدوي هنا وهناك من شوارع المدينة ولو ان العدالة تأخذ مجراها فتعطي كل ذي حقٍ حقه ، ولو ان المناصب تمنح بالنضال لكن جاسم هو الزعيم بلا منافس .

هناك من يرى في شخصيته ( البهلول الناطق )  وأنه لسان حال الجموع  بصوته الاجش فهو تعبير حقيقي عن معاناة شعبنا بلا حاجز الخوف فهو يفرغ عن لسان حال الشعب وصوته الثوري المعبر , لكن جاسم يسقط ذلك الرأي بقوله المأثور ( اكلوا , وصوصوا , و ناموا ) ويقصد الشعب طبعا .

حين سقط النظام السابق في التاسع من نيسان علق جاسم يافطة علي صدره كتب عليها ( نعم نعم للتوحيد  شيعة وسنة أيد بأيد ) حين قرأنا تلك اليافطة ضحكنا كثيراً لهذه الهلوسة التي يهذي بها ، لم نكن نعرف حينها ان هناك مؤامرة لزرع الفتنة والطائفية بين أبناء الجسد الواحد ، لقد كان جاسم مصيباً في رأيه وكان الأجدر بنا ان نخط تلك اليافطة نفسها ونعلقها على صدورنا تماماً كما فعل جاسم .

تبدلت الحكومات وتغيرت الوجوه ولا زالت أيديولوجية جاسم لم تتغير، فهو صلباً في عقيدته مؤمناً في نهجه القويم الذي أختطهُ لنفسهِ والى الآن يدور بماكينته الإعلامية يلقي بخطبه الحماسية هنا وهناك من دون ان يخشى أحدا فهو يمارس صلاحياته الدستورية وحقوقه كمواطن في التعبير عن رأيه وأنا ما زلتُ استمع لخطابات جاسم فالدستور يمنحني هذا الحق.