البالة سوق لكل فئات الشعب |
في فترة الحصار الاقتصادي المفروض من المجتمع الدولي على الشعب العراقي, بسبب مغامرات الغبية للطاغية صدام, ظهرت أسواق "البالات" وهي أسواق لبيع الملابس المستخدمة ونفايات مستوردة من الخارج, تلك الفترة التي كانت شديدة القسوة على العائلة العراقية, بفعل حجم الضغوطات المسلطة على المجتمع, لذا ظهرت مهن عديدة لسد حاجات الناس, ومنها ولدت أسواق البالات, والتي شهدت إقبالا كبيرا, بسبب انخفاض القدرة الشرائية للمجتمع نتيجة السياسات الخاطئة للسلطة, لذا أصبحت "البالة" بديل مناسب للجديد.
وحتى بعد ارتفاع القدرة الشرائية, لفئة واسعة من المجتمع, في السنوات الأولى للتغير, بقيت سوق البالات لها رواج واسع, على تنوعها من ملابس أو أجهزة كهربائية أو أجهزة الكترونية أو قطع غيار أو العاب أطفال, واهم أسواقها اليوم في بغداد هي سوق الكاظمية وسوق بغداد الجديدة وسوق باب الشرقي وسوق باب المعظم وسوق مريدي, حيث يأتي لها الناس من كل مكان حتى من المحافظات.
هنا نحاول أن نتعرف على قصة البالة من أين تأتي ؟ وما هي ابرز أنواعها ؟ ولماذا يستمر المواطن بالبتضع منها ؟ ومن هم الزبائن الدائمون ؟ تساؤلات انطلقنا بها نحو الأسواق لنتعرف على أجابتها:
●الأجهزة المستخدمة طريقنا لمواكبة التطور
بدأت رحلتي بالتساؤل ترى كيف تصل الى أسواق العراق؟ فالتقيت بالمواطن حسنين كريم وهو تاجر متخصص في استيراد البالة فقال: أن مكاسبنا الكبيرة الذي تحققت كانت في نهاية التسعينات, حيث تخصصت أنا في جلب التلفزيونات المستخدمة, حيث كان العراق يعيش عزلة شديدة, فمن النادر أن تستطيع شراء تلفاز حديث, بسبب عسر حال اغلب العراقيين, أن تجد الحديث من تكنولوجيا التلفزيونات, فأحدثنا طفرة بجلب تلفيزيونات البالة بماركات عالمية
(هيتاشي وسوني وشارب ) وعن طريقنا أدخلنا الريم ونت كنترول, الذي أحدثه ضجة بالاضافة للتقنيات الحديثة التي لم تكن موجودة في السابق . لذا كانت مبيعاتنا مرتفعة جدا ولمدة أكثر من ستة سنوات الى سقوط الطاغية, حيث حصل الانفتاح أمام المستورد الجديد, ودخلت الأجهزة الجديدة بأسعارها المناسبة, مع ارتفاع نسبي للقدرة الشرائية للمجتمع, عندها انخفضت مبعيات أسوق البالة, لكن عادت بقوة فيما بعد, بعد الانتكاسة الاقتصادية للبلد نتيجة السياسة الحكومية الخاطئة. حاولت البحث عن مصادر تجارة البالة فالتقيت بالمواطن أبو صادق في سوق الكاظمية فقال: أنا استورد البالة من شمال العراق, وهم يأتون بها من تركيا, ملابس وأجهزة كهربائية, وهذه البضائع اغلبها مستعمل في البلدان الأوربية وأسعارها مناسبة, وأنا أرى أن البائعين يرفعون أسعارها, وهذا دليل على الطلب الكبير عليها, أن سوق الكاظمية يأتيه الناس من كل مكان, لذلك فالبضائع تنفذ بسرعة, وهذا سبب ديمومة عملنا خصوصا أن الكثير من سوق البالات ماتت, بعد دخول الجديد المنافس بسعره ووصفاته .
●موديلات البالة لا تجدها حتى في أرقى المحلات!
أضاف محمد ألبياتي بائع ملابس بالة في سوق بغداد الجديدة: اخترت هذه المهنة في سنوات الحصار لأوفر حاجات أسرتي, والحقيقة أنها كانت خير عون لي في فترة الحصار, وبعد عام 2003 استمرت بنفس عملي, اليوم هناك فئة واسعة تتسوق ملابس البالة لرخص ثمنها وجمال موديلاتها, فموديلات البالة لا تجدها حتى في أرقى المحلات, لان بعضها يأتي من أوربا, والتجار اغلب بضاعتهم من الصين أو عبر دبي, لذا يمثل ملابس البالة استثناء كبير, لا يوصله للزبون الا نحن بائعي البالة.
أما المواطن ثامر الشمري صاحب بسيطة لبيع البالة فيضيف: سوقنا تدخله اغلب فئات المجتمع, فقط الطبقة البرجوازية التي نمت مع الحاكم الأمريكي بريمر لا تدخله, هذه الطبقة التي تترفع وتتعالى على المجتمع ! وهنا اعتب على بعض الناس والإعلاميين الذين يحاولون منع الناس من تسوق ملابس البالة, باعتبار أنها تجلب الإمراض الجلدية, وهذا غير صحيح فنحن نقوم بغسل الملابس قبل بيعها, ونعطي إرشادات للمشتري بأهمية الغسل قبل اللبس, للخلاص من إي وساوس, وهنا نؤشر حقيقة أن سوق البالة ليس فقط للفقراء, بل حتى الباحثين عن الماركات العالمية المشهورة, فالسوق العراقية غارق بالبضاعة الصينية, فالكثير من طلاب الكليات يتسوقون منا تحت عنوان البحث عن ماركة عالمية .
والتقيت بالمواطن مرتضى احمد : بضاعتنا "البالة" هي أفضل من الجديد الصيني, وهي ماركات عالمية معروفة, والناس البسطاء يرغبوها لرخص ثمنها, وطلاب الجامعات بسبب بحثهم عن الماركات العالمية, فهم متسوقين جيدين للبالة, ونحن نستورد بضاعة دول شرق أسيا من الإمارات, وبضائع أوربا تأتي عن طريق تركيا, وأنا متخصص في الملابس, حيث تأتي بماركات عالمية معروفة, وهي مرغوبة ليس فقط من الفقراء أو محدودي الدخل, بل حتى من ميسوري الحال, لأننا في العراق أكثر استيرادنا للملابس صينية, فالمنشئ الأوربي نادر, إما ابرز الحالات التي تصادفنا فمرات قليلة نجد نقود فئات قليلة في جيوب الملابس, والحقيقة أفضل البالات هي الخليجية, خصوصا الملابس النسائية, حيث البدلات الراقية ومن أهم المناشئ العالمية ونبيعها بسعر كبير.
حاولت أن اعرف سبب الشراء فوجدت أبو جبار ألدلفي وهو يقلب ملابس البالة بحثا عن شيء يعجبه ليشتريه فقال : أنا كلما جئت الى مدينة الكاظمية اذهب لسوق البالة, فأجد شي مهم وأنا تعجبني البالة, لأنها لا يوجد لها مثيل في البضائع الجديدة, بالاضافة لأسعارها المناسبة, فقط الحذر يأتي من كونها ملوثة بإمراض معدية, والحقيقة أن الكثير من البائعين يقومون بغسل البضائع وأنا انصح بالغسل قبل لبس البالة .
ووجدت احد الباعة تزدحم بسطيته بالناس وهو يصيح بأعلى صوته ( القطعتين بألف ) حيث يبيع ملابس أطفال واغلب المتجمهرين حول بضاعته من النساء فسئلت الحاجة أم رفل, وهي قد اشترت أربع قطع منه لماذا؟ فقالت : هذه الملابس راقية جدا بتفاصيلها, ونوعية القماش, والعلامات التي عليها, وهي تباع بمبالغ خيالية في المحلات, لكن هنا تباع بثمن قليل استطيع شرائها, وأنا تعودت منذ التسعينات الشراء من البالة, فنجد فيها ما لا نجده في المحلات, بالاضافة الى رخص ثمنها .
ووجدت صديقي نائل العامري يتسوق من سوق البالة فسألته عن سبب قدومه للسوق فقال: البعض يتصور أن البالة فقط ملابس, لكنها تخص الحاسبات والأجهزة الالكترونية والكهربائيات حتى قطع غيار السيارات, وأتذكر جيدا كيف أن سوق تلفزيونات البالة كان رائجا في بداية الألفية الثالثة, بسبب ارتفاع أسعار الأجهزة الجديدة, وكانت بماركات عالمية معروفة مثل فليبس وتوشيبا وايوا, وكانت الناس تلجا للبالة لمواكبة تكنولوجيا العصر, بما هو مسموح وممكن, واستمرت الحالة حتى عام 2004, بعدها توفرت الأجهزة الحديثة بأسعار مناسبة, مما تسبب بموت سوق تلفزيونات البالة, وأضيف لو أن البضائع الجديدة معمرة وذات متانة لما لجأ الناس للبالة .
لكن المواطنة سعاد احمد (موظفة حكومية) كانت قصتها مؤلمة وخطيرة فقالت: لقد سببت لي ملابس البالة أيام سوداء لا يمكن أن تغادر ذاكرتي, فقد اشتريت في احد الأيام بدلة لابنتي الصغيرة وهي بعمر ثلاث سنوات, فقد جذبني تفاصيله والماركة, لكن ما أن لبسته حتى ظهرت قروح في جسدها, وبقيت أعالجها عند طبيب مختص بالإمراض الجليدية, الى أكثر من ثلاث أشهر, وبعدها عاهدت نفسي أن لا اقرب سوق البالة.
●العاب الأطفال البالة تنفع في تنمية التفكير للطفل
بقيت متسائل ترى هل توجد أشياء تخص عالم الأطفال في البالة, فتم الجواب من حسين زامل حيث قال: العاب الأطفال البالة مطلوبة جدا, لأنها غير موجودة في أسواق الألعاب, حيث الألعاب الفكرية التركيبية ولغاز الذكاء, وكلها مهمة في تنمية الذكاء لدى الطفل, وهذا يخص بضائع أوربا, وهذه البالة قادمة من انكلترا وألمانيا, وهي مركز الحضارة الغريبة, لذا يتلقفها الناس بسرعة لإدراكهم أهمتها للطفل, أتمنى أن يهتم المستورد العراقي بما ينفع الناس وبسعر مناسب, ويقدم هذا الأمر على الطمع, الذي جعله يجلب بضائع باب ثالث ورابع فقط لكي يزيد إرباحه.
●أجهزة الاستنساخ البالة أفضل من الجديد
وكان للسيد رافد فلاح رأي مهم يخص أجهزة الاستنساخ حيث تمثل اختصاصه فيقول : قبل فترة طلب مني شراء أجهزة استنساخ كبيرة, للدائرة التي اعمل بها, لكوني خبير في مجال أجهزة الاستنساخ فوجدت أن البالة أفضل من الجديد, من ناحية المتانة والقوة والسعر ,حيث أن الأجهزة الجديدة تكون دواخلها من بلاستك فتكون سريعة التلف خصوصا أن الجهاز يعتمد الدوران المستمر في عملية الاستنساخ, بعكس أجهزة الاستنساخ البالة والتي دواخلها من ألمنيوم, والأمر الأخر فرق السعر الكبير, فجهاز الاستنساخ الجديد يصل سعره الى أكثر من إلفين دولار, إما البالة فأسعارها تتراوح بسعر سبعمائة دولار.
وأضاف عبد زيد العلي ( باحث اقتصادي ): استمرار الطلب على "البالة" والبضائع المستخدمة, دليل على إن البضائع الجديدة لا تسد حاجة الناس, إما بسبب ارتفاع ثمنها, أو بسبب رداءتها خصوصا إذا علمنا إن الميزان التجاري مع الصين ف استيراد البضائع غير الجيدة وصل الى 14 مليار دولار سنويا, مما يؤكد امتلاء السوق ببضاعة رديئة وسبب الموضوع التجار وعدم وجود جهة تحاسب وتمنع دخول البضائع الرديئة , عندها لم يجد المواطن من حل الا اللجوء للبضائع البالة.
●الثمرة
أن سبب انتشار أسواق "البالة" في العراق يعود لسبب رئيسي وهو سوء إدارة الدولة من قبل النخبة الحاكمة, مع إن امتلاك البلد لخصائص اقتصادية متنوعة, لكن فشل الساسة في رسم سياسة اقتصادية ناضجة للبلد, وهكذا وجد العراقيون في نفايات الدول وسيلة لسد حاجاته, ننتظر اليوم الذي يدير البلد من يملك رؤية اقتصادية وإرادة على الفعل, فقد طال ليل الفاشلين. |