نموذج للقراءة التفكيكية في تفسير النصوص الدينية ح1





بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ....}...
في قراءة تفكيكية في نص الآية 5 من صورة الحج والتي تبين رؤية القرآن لعملية الخلق والتطور، هناك مجموعة أفكار لا بد من إعادة القراءة التدبرية فيه للوصول للقصدية العلمية والمعرفية التي يطرحها النص، أولا علينا أن نفكك النص حسب المبنى النظمي ثم إعادة بناء الرؤية القصدية وفقا للمتحصل العلمي المعاصر مقارنة بنصوص دينية ساندة أو مفسرة من نفس المنظومة القرآنية وكما يلي:
• (يا أيها الناس) الخطاب أبتدأ للناس وليس للإنسان وعادة ما تخاطب النصوص القرآنية الإنسان بصفته المجردة في قضاياه الخاصة مثل يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴿٢٨ النساء﴾، ونص أخر على المنوال ذاته {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} ﴿٤ النحل﴾، في قضايا الخلق هناك محورية في توجيه الخطاب للإنسان ولكن في نص الآية 5 من سورة الحج جاء الخطاب للناس، وكأنه يريد أن يوجه خطاب عام بالصفة ليس بالموصوف، بمعنى أن الإنسانية بمجملها معنية في هذا النص وعليها الانتباه والألتفات إلى المضمون التالي.
• (إن) أداة تخيير وتحدي بعيدا عن منطق اللغة، فهي لا تشير إلى معنى أخر خارج أشارة التخيير بمعنى (لو كنتم) أو (لو في حال) وكلا الصيغتين يفتح النص باب الخيار مع حسم النتيجة مقدما كما في النص التالي {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (59النساء)، هنا لا بد للناس أن تختار بين محددين الأخر هو تكملة النص فيما يكون الأول هو ما يخالفه بالتأكيد.
• (كنتم ...في ريب) هذه الصيغة كاشفة عن قضيتين أولا أن الناس لا يملكون رأيا يقينيا حاسما ولا دليل لهم عليه سوى ما كان متوارث أو هو واقع فعلا، فالتحدي سيكون بين ما يأت بالنص من خبر أو معرفة أو حكم، وبين ما عند الناس من أمر مشكوك به أو فيه، هذا ما يؤكد وظيفة (إن) التخييرية، القضية الثانية أن هناك أحتمالية ألا يكون عند الناس أيضا أي فكرة ما عن الخلق، فالجواب القادم يشمل القضيتين من لديه فكرة وممن لا يملك أدنى فكرة عن الخلق.
• (الريب) ليس فقط شك مجرد وترديد بين معنيين متناقضين، ولكنه شك متحرك بين أكثر من معنى أو دليل أو محل فهو لا يستقر على جهة ما، فهو مترجح مرة بين اللا يقين ومرة بين اللا معرفة كقول الله تعالى {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} ﴿٤٥ التوبة﴾، هنا الريب أعلى درجة من الشك الساكن فقط.
• الريب هنا لا يتعلق فقط بالخلق ولكن أصلا في البعث فهم يعرفون من حيث المبدأ أنهم نتاج أرحام ونتاج عملية طبيعية معتادة، الريب هنا ماضي ومتوجه للخلق الثاني أي البعث، فجاءت الجملة كالأتي (في ريب من البعث) ليبعد القارئ عن محاولة الربط بين مجريات النص والمعرفة الطبيعية ليركز على مفهوم أخر مناقض للمعرفة الطبيعية من خلال الإشارة إلى أن معرفتهم التي يدعوها هي أيضا خاطئة.
• (من البعث) حدد النص القضية الأساسية من إيراد الآية في هذا السياق المركب للتأكيد على معنى جديد عند العرب خاصة والعالم المتلقي عامة، وهو موضوع العودة الثانية للوجود في عالم أخر ليبرهن ليس على القدرة الذاتية للباعث، ولكن للألية التي سيتمكن من خلالها ممارسة البعث بالشكل الذي يريده، مارس مقاربة ومقارنة صورية بين الخلق الأول والبعث الثاني بأعتباره خلقا أخر {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، تعدد صورة الخلق في الأول والأخر إنما جرى وسيجري وفق رؤية ومنهج واحد لا يتغير وهو بقية النص.
• (َفإِنَّا) من الأساليب المعهودة في النص الديني صيغة المخاطب الحاضر مثل إنا نحن أو إنا أو نحن، الغريب أن يرد في النصوص صيغتين مختلفتين للتعبير عن الحديث بصيغة الحاضر، مرة تأت توكيدا للذات الإلهية بانها المتكلمة (إني أنا الله)، ومرة بصيغة المخاطب الذي يوحي لمن لم يتعود لغة القرآن الكريم أن المتكلم غير الله فردا، مثل (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) وأيضا في هذه الصيغة الواردة في الآية موضوع البحث، الحقيقة والتي لم يقل بها أحدا لا من المفسرين ولا من الشراح، أن الفرق ليس في صيغة التعظيم كما يروج، ولكن في قضايا محددة ومعدودة يكون الخطاب يعبر عن مجموعة قوى مسخرة في خدمة الله لإكمال موضوع أو قضية ما، مثلا في قضية إنزال القرآن الله تعالى لم يقل بأنه أنزله بيده أو بالذات وإنما بواسطة كائن أخر، لذا جاءت الصيغة (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، الهدف من هذا التفريق أن الموضوع محل الخطاب هو الذي يحدد من خلال ألياته صيغة المخاطبة، وبالتالي فكلمة (إنا) هنا تعود أن الخلق ليس مجرد كلمة هو قائلها (كن فيكون) ولكنها تخضع لسلسة من العمليات تبدأ بإرادة الله وتنتهي بإمضاءه وبين الإرادة والأمضاء هناك أخرون.
• (خلقناكم) تأكيد على المعنى السابق الذي يتعلق بصيغة المتكلم الحاضر الجمعية، وبما أن الله تعالى في نص سابق نسب لنفسه حصرا خلق آدم ع بيديه ولم يجعل في أمر الخلق صيغة خارج التخصص، هنا يشير إلى الناس، والناس هم بالتأكيد غير آدم تكوينيا وتكيفيا حيث أن النص يفرق بين آدم البشر من طين والناس المخلوقين من ماء مهين، هذا التفريق يجد تعليله بالفرق بين كلمتين (خلقتك بيدي) و(خلقناكم)، هنا تتضح منهجية الخطاب فالله تعالى هو الخالق الكلي والأبدي لكل المخلوقات ومن ضمنها الناس، لكن لا يمكن أن يكون خلق الناس بذات الألية التي خلق فيها أدم ويشترط لتمامها وجود زوج قادر وزوجة مهيأ للتخليق، وهنا نفهم جزئيا كلمة وخلقناكم.
• أيضا في صيغة خلقناكم التي هي بالتأكيد دلالة على ماضوية الخلق وإشارة إلى حادث قديم وإن لا يمنه أن يكون في الإشارة هذه مبدأ أخر، المبدأ هذا هو ما تعنية كلمة (من تراب) المن التبعيضية هنا وليست من الكلية، المعروف أن النصوص المبثوثة في القرآن تشير إلى أن أصل الخلق الطين، والطين هو مزيج من ماء وتراب، وأن الله جعل من الماء كل شيء حي، فالإشارة هنا لا تعني تناقض بين الطينية وبين التراب، الفرق أن الطين يملك الحياة بالقوة، بينما التراب محتاج إلى مستلزم وجودي ليكون صالحا للخلق، إذا لماذا أشار الله إلى التراب في هذه الآية ولم يشر للطين، الجواب يكمن في إفهام المخاطب وهو الإنسان أنه أصلا مخلوق من مادة لا يمكنها أن تتحول إلى كائن حي لوحدها بمعنى أن الخلق هنا مركب من كائن لا يملك أن يكون إلى كائن مالك ما يكون، أي أن هذا التراب الذي خلقنا الله منه تحول بقوته هو وبالطريقة التي أراد إلى كائن متسلسل بالحياة أعتمادا على نتائج الطريقة الأولى التي لا يملك أحدا سرها إلا هو.