الكتابة الصحفية ومعاييرُها



كثيرا ما أتصفح الجرائد والصحف اليومية صباحا سواء الورقية منها او الالكترونية وارى العجب العجاب من بعض الكتّاب الذين يعبئون مقالاتهم ويثقلونها بالصور البلاغية ويقحمون كتاباتهم استعارةً وتشبيها وكأنه يستعرض مهاراته وعضلاته في حلَبة الادب ويكتب الى النخبة المنتقاة وكأنه يقول ليتكم ترونني وترون أفعالي فأنا الصائح المحكيّ والآخر الصدى ولا يدري ان ما يكتب يقرأه العامل الجالس في المسطر ويقتعد الرصيف بانتظار من يدعوه للشغل والموظف البسيط الذي ينتظر علاوته السنوية بشغف وتحسين مرتبه والمتقاعد الذي يترقب زيادة في راتبه الضئيل وكيف يغطّي مصاريف أسرته والطالب الذي ما زال فكره قيد النضج والكادح الساعي نحو رزق عيالهِ وهذه هي الشريحة الكبرى من القرّاء ، دون ان يفقه كاتبنا ماقاله أجدادنا العرب العارفون الكبار بان " لكل مقام مقال " وانّ " من أكثر ثرثرَ ومن أقصر قصّر " ومن أوجز لايعني انه أنجز " ، فالصحافة تهدف الى ايصال المعلومة بلغة جاذبة بسيطة يفهمها العوّام والبسطاء ونصف المتعلمين قبل الاساتذة الكبار والمثقفين اللامعين .
من خلال دراستنا الاكاديمية لاساليب الكتابة الادبية وغير الادبية حينما كنّا على مقاعد الدراسة اوائل السبعينات من القرن الماضي اثناء تخصصنا في قسم اللغة العربية ؛ تعلمنا ان كتّاب الصحافة والبحوث الادبية والمقاليين في الاعمّ الاغلب يعوّلون على استخدام الاسلوب العلمي المتأدب لايصال ما يريدون الى القرّاء لما له من تاثير واضح على المتلقي من خلال الاستعانة باللغة الواضحة السريعة الفهم وتلوينها بمسحة جمالية جاذبة ومشوقة وهناك من المهتمين في الصحافة يسمّي ما يكتب في الصحف والمجلات باسم " اللغة الثالثة " المتداولة في عالم الإعلام لايصال المعلومة الى كافة شرائح المجتمع وعلى مختلف مستوياتهم الفكرية ونعني بها اللغة البيضاء السمحة المأنوسة السهلة الفهم ، يتخللها عنصر التشويق والمواصلة حتى نهاية موضوعها .
واللغة الثالثة مصطلح تداولته ألسن الصحفيين والدارسين كثيراً وهي خليط من اللغة العربية الفصحى لكنها بسيطة التعابير بلا إسفاف ، ليّنة الهضم ، سريعة التأثير لعموم القرّاء ، فالصحفي الذي يسفّ في استخدام اللغة العامية الدارجة البسيطة المتداولة بين عموم الطبقات ويلجأ الى لغة السوق والإغراق في العامّية لايمكن ان يتألق ويؤثر في المتلقي بينما الصحفي الذي يختار عباراته وجُمَله ويمزج بين اللغة الدارجة البسيطة ولغة الادب الجميلة نراه يشد القاريء الى المتعة والفائدة ويمسك بتلابيبه حتى يكمل قراءة الموضوع بشغف وانبهار ، وهنا تبدو براعة الكاتب في التأثير على القرّاء وايصال ما يريد ان يقوله.
لنكن أكاديميين للحظات بهذه السطور القليلة ونذكّر بأننا درسنا أساليب الكتابة التي تعددت الى ثلاثة أنواع :
-- الأسلوب الادبي : وتعريفه باختصار شديد جدا : الذي يستخدم فيه الاديب براعته في الخيال والصور الجمالية واللعب في ميادين الاستعارة والمجاز والتشبيه والمحسنات المعنوية واللفظية في النصوص الادبية سواء كانت قصة او رواية او مسرحية او قصيدة شعرية او حتى خاطرة والغور في عالم اللغة والبحث في متاهاتها عن معانٍ جديدة تثير الدهشة ، ورغم جمالية هذا الاسلوب وسحره ؛ لكنه لاينفع الاستعانة به في لغة الصحافة باستثناء الصفحات الادبية التي غالبا ما نراها في بعض الصحف المهتمة بالجانب الادبي والابداعي .
-- الاسلوب العلمي : مثل هذا النمط من الكتابة يبتعد نهائيا عن الخيال والصور والاستعارات ولايهتم اساسا بالمحسنات اللفظية والمعنوية معتمدا على لغة الارقام والتجريب مثلما يتحدث عالم الفلك عن المجرّات والمجموعات الشمسية او الكيميائي عن تجربة علمية ما ، وهذا الاسلوب ابعد مايكون عن لغة الصحافة ايضا ، عدا الصفحات العلمية ان وجدت في بعض الصحف والمجلات .
-- الاسلوب العلمي المتأدب : وهذا هو مقصدنا ؛ فهو خليط من الأسلوبين العلمي والادبي مع إضفاء لغة التشويق والاثارة باستعمال شيء من البلاغة والصور البيانية والتشبيهات المستساغة والمأنوسة لدى المتلقي ولكن دون مغالاة و دون إهمال حقائق الاخبار التي تريد الصحافة كشفها للقرّاء ناصعة واضحة .
وقد نرى العكس تماما في مقالات هابطة المستوى لغويا ، ركيكة الاسلوب ، ثقيلة على القارئ ، خالية من عنصر الاثارة والتشويق إضافة الى فقر مضامينها ولاتلامس عقل وقلب القارئ ولاتقترب من همومه مشاكله الجمّة كالتي نراها الان في صحافتنا ، وهنا على الكاتب الاّ يتصور انه أستاذ محاضر وما القرّاء الاّ أذان صاغية له ، انما عليه ان يجاورهم ويجاريهم وكأنه واحد منهم انتقوه ليكون لسان حالهم وصوتهم المسموع .
وكما ان غالبية القراء من عامة الشعب ومن مختلف شرائحه البسيطة ؛ فهناك أيضاً من القرّاء ما يفوقون الكُـتّاب وعياً وثقافةً ودرايةً وبصيرةً ؛ وأهجس انهم يتساءلون فيما بينهم ويقولون بسخرية بعد ان ينتهوا من قراءة مقالة لا تُغني عقلا ولا تُشبع نفسا توّاقة الى الابداع وخالية من المضمون النافع الممتع ويرددون : بأيّ أسلوب يكتب هؤلاء ، هل يظنوننا معتوهين مثل عته كتاباتهم ومقالاتهم السمجة ؟؟ !
والحق ان الكتابة في الصحافة فنٌ وابتكار وحنكة ومرانٌ قد يخيب فيه هذا الاديب اللامع الذي يشار اليه بالبنان وذاك الشاعر الصاعد الذي صفقت الايادي له اعجابا . وربما ينجح فيه الكاتب البسيط الممتهن للعمل الصحفي والذي يتفهّم تماما هموم القراء وماتريده طبقات الشعب المتنوعة مثقفين ونصف مثقفين ويعرف كيف يوصل صوته الى أسماع المتلقين ويثير مشاعرهم وأحاسيسهم لانه آتٍ من تلك الطبقات المسحوقة التي تعاني شظف العيش ومرارة الكدح والكفاح في هذه الحياة المريرة في غالبية سنواتها ؛ ولانكاد نجد أياما حلوة إلاّ لماماً ونزراً يسيراً .
وكما ان القدرة على السرد فنٌ لايقدر عليها الاّ المتمرّس ، فالقراءة فنٌ آخر كما يقول البرتو مانغويل في كتابه " فن القراءة " ، فالكتابة للصحافة ليست كما الكتابة القصصية السردية او المذكرات اذ لاقواعد حرفية تتخللها لأمكان اتباعها والحاذق الحاذق من يلوّن مقاله بصبغات ادبية ولو كان مقالا تقليديا او تقريريا او خبريا طالما ان كل شيء في الكتابة الصحفية تخضع للذوق والاستساغة والقبول .
فلتكتبوا وامامكم فكرة الكتابة وموضوعها اولا ، ولا تضعوا قواعد مصطنعة عقبةً ومطبّاً يخلخل عربة الكتابة وهي تسير في مجراها المرسوم لها من قبل العقل ، فقواعد الكتابة الصحفية ليست الاّ وهمْاً وخدعة أكاديمية لتمريرها ، ومن يتحدث عن قوانين صارمة او مرنة كمن يضيّع كلامه في فضاء لاحدود له .
ولازالت دعابة الكاتب الانجليزي " سومرست موم " عالقة في ذهني حينما صرّح متندّرا امام صحبه من الصحفيين أصدقائه بان هناك ثلاث قواعد للكتابة السليمة وسكتَ بعدها ... فتساءل زملاؤه ماهي هذه القواعد ؟ فأجاب ضاحكا : لا أدري