أنا مواطن... أنا أحمي الفساد |
ذلك المواطن المغربي الذي أبدع مقولة "دهن السير يسير"، في دعوة مباشرة إلى "التعايش" مع الفساد، بل تشجيعه، هو نفس المواطن الذي يندب حظه أنه لم يولد في السويد فينعم بجو الحرية والنظام فيها، وهو نفس المواطن الذي حين تطالبه باحترام الطابور يجيبك غاضبا: "وهل نحن في السويد؟". (أنا لا أملك أي تعاطف مع "المواطن المغربي"، فهو ليس ضحية الفساد في مجتمعنا، بل هو شريك فيه)، جملة طالما رددتها على مسامع أصدقائي وهم يتباكون على ذلك "المواطن المغربي المسكين"، لا أكن أي تعاطف له لأنني حين أدخل محطة القطار، وأحترم الطابور، أجد الكثير من الواقفين يحاولون انتهاز أي فرصة انشغالك من أجل أخذ مكانك، في الوقت الذي المواطن في دول يحترم فيها القانون، لن يأخذ مكانك بل سينبهك إن حان دورك، حتى وإن انشغلت وأنت في الطابور. لا أكن أي تعاطف لذلك "المواطن المغربي"، لأنني حين أكون في محطة القطار أنتظر دوري من أجل التوجه إلى شباك التذاكر، أفاجأ بأشخاص دخلوا من باب الخروج وليس الدخول، ويتجهون مباشرة إلى شباك التذاكر وكأنني صنم اختار الوقوف في ذلك المكان وليس لأنني مواطن أحترم الطابور. لا أكن أي تعاطف لذلك "المواطن المغربي" وأنا أسمع شخصا من هؤلاء الأشخاص والذين يبدو عليهم أنهم طلبة جامعيون ينبههم أنهم دلفوا من المدخل الخطأ وأن عليهم احترام الطابور، فيجيبه أصدقاؤه مازحين: "وهل نحن في بريطانيا؟ عندما نذهب إلى بريطانيا نحترم الطابور"، نفس الشخص هو الذي ستجده يحتج لماذا المغرب ليس بلدا منظما مثل بريطانيا، وهو لا يعرف، أو يجهل، أو لا يريد أن يعرف أن بريطانيا لم تخلق كمجتمع منظم، ولكن شعبها من فرض على قادتها أن يصبح مجتمعا منظما. إن ذلك "المواطن المغربي" يفكر بطريقة، ويقول كلاما آخر، ويتصرف بشكل آخر، وستجده لن يتردد في أن يخبرك أن الدولة هي من جعلته هذا الكائن المتعدد الأشخاص، التائه، الذي لا يعرف ما يريد، والذي يريد كل شيء، دون أن يفعل أي شيء، ويعتقد اعتقادا جازما أن الدولة من حولته إلى هذا الكائن الغريب الذي لا يعرف ماذا يريد، في محاولة أخرى للهروب من قواعد الديمقراطية، وهي أن يفهم المواطن أنه مسؤول على ما يحدث في مجتمعه، وليس ضحية له. فقط لنسترجع ذكرياتنا مع الانتخابات وصيرورتها، يعرف ذلك "المواطن" أن السياسي في حاجة إليه، فيدخل معه في مفاوضات، إما أن تدفع مقابل صوتي الآن لأنني أعرف أنك حالما تصل إلى قبة البرلمان لن تذكرني، وإما أنني سأقاطع الانتخابات ولن أهب صوتي لأحد. ذلك "المواطن المغربي" يجهل أنه في بلد مثل بريطانيا، المواطن لا تتوقف مسؤوليته عند الادلاء بصوته في الانتخابات، بل تتعداه إلى "المحاسبة"، حيث ينهال المواطن على البرلماني بكم من الرسائل الالكترونية والبريدية وأحيانا قد يصل إلى الاحتجاج أمام مكتبه وحتى أمام باب بيته، لأن المواطن يعرف أن صوته من جعل هذا السياسي ممثلا عنه في البرلمان أو في مجلس المدينة، وأنه هناك لينوب عنه، وأن المواطن عليه أن يتأكد بأن صوته يصل كما يجب. يذكر الجميع قضية "دنيا وخولة"، الممثلة المغربية الشهيرة "دنيا بوطازوت" والمواطنة الشابة "خولة"، كلتاهما يقطنان في حي واحد، وكلتاهما تواجدتا في ذاك اليوم بمكتب إداري لاستخراج وثائقهما. تحكي المواطنة "خولة" أنها كانت تنتظر مع المنتظرين في الطابور حين دخلت "الفنانة دنيا" المكان، واتجهت مباشرة إلى رئيس المكتب مما جعل "خولة" حسب قولها تنتفض لهذا السلوك من فنانة تراها مواطنة استغلت شهرتها من أجل قضاء أمورها في الوقت الذي يقف باقي المواطنين في طابور طويل، وهي الانتفاضة التي انتهت بضرب متبادل بين "المواطنتين". ردود الفعل الأولية عن الحادث على مستوى مواقع التواصل الإجتماعي كانت تؤازر "الفنانة دنيا" ومنظر الدم يسيل من أنفها الذي ضربته "خولة" برأسها، لكن هذه الردود المؤازرة ستتحول 360 درجة ضد "دنيا" فور تحدث صديقة "خولة" إلى الاعلام الرقمي(الإليكتروني) قالت فيه "إن دنيا لم تقف مع الواقفين في الطابور واستغلت شهرتها لقضاء أغراضها وحين احتجت خولة قامت دنيا بصفعها على خدها وما كان من خولة الا أن ردت عليها بضربة رأس على أنفها"، لينطلق "احتجاج رقمي" كبير يطالب بإخراج خولة من السجن، وعدم محاكمتها، ويضغط على دنيا من أجل ان تتنازل عن دعوتها ضد خولة، والا فان العقاب سيكون بأن يقلع المواطنون عن مشاهدة أعمال دنيا الفنية... الشيء الوحيد الذي لم يذكر في خضم كل هذا الجدل هو ....القضاء. يرى ذلك "المواطن المغربي" أن القضاء جهاز ليس فقط غير مستقل بل جهاز فاسد مثله مثل الإدارة، مثل الاعلام، وكل مؤسسات المغرب، وهذا ما يفسر سر اقبال كثير من المغاربة على شبكات إعلامية مثل يوتيوب وفيسبوك من أجل "الثأر" من وزير فاسد، أو سلوك مهين، وهذا ما يفسر سر انطلاق الدعوات على فيسبوك قبل الشارع للخروج في "مسيرات الكرامة" لحظة مقتل بائع السمك "محسن فكري". يقال إن "المواطن المغربي" فقد الثقة في مؤسسات الدولة، لكن الصحيح أن ذلك "المواطن المغربي" لم تكن لديه أصلا هذه الثقة في مؤسسات الدولة حتى يفقدها، فالمغرب كدولة بالمفهوم الحديث هو لا يزال في طور النشأة، والواقع اليوم هو صراع بين موروثات القديم المتمثلة في أساليب الحكم القديمة والتي كانت قائمة على تقديم "الهدايا"، و"توفير خدمة مقابل خدمة"، و"ابن من أنت" و"من أي قبيلة تنحدر"، مع مفاهيم الدولة الحديثة القائمة على المساواة بين المواطنين في ظل قضاء مستقل. أختم بحكايتي مع "الفساد"، حين كنت أستعد للرحيل إلى كندا، واكتشفت ليلة أحد وهو يوم إجازة أني لم أقم بختم بعض الأوراق المهمة وكان علي حل هذا الاشكال قبل سفري صباح الاثنين باكرا، اتصلت بأحد أصدقائي، الذي طلب مني أن التقيه قرب منزله، وهناك أخذني إلى مرآب أحد المنازل، لأجد ان هذا المرآب هو لموظف بالبلدية يفتح منزله ليلا وفي الاجازات لأصحاب الأمور الإدارية العاجلة مثلي، ويختم أوراقهم مقابل مائة درهم للوثيقة الواحدة، التفت إلى صديقي، وكنت أحاول أن احتج فقال لي: "الموظف يطبق المعنى الحرفي لـ"تقريب الإدارة من المواطن"، لا أعرف إن كان علي وقتها أن اضحك أو أغضب، لكنني ختمت وثائقي بمقابل مادي عوض أن أختمها بالمجان في مكتب البلدية، وخرجت من ذلك المرآب أقول لصديقي: "أنا مواطن...أنا أحمي الفساد". |