منهجية كتابه ألتاريخ في أدب الطفل... د. جميل عبدالله |
لأحداث التاريخ أهمية كبيرة في حياتنا كأفراد وكمجتمع ,لما فيه من مأثورات وعبر نستسقي منها الدروس ونضع بها خططا ومفاهيم وتوجهات مستقبلية إعتمادا على قراءتنا لأحداث التأريخ وما استنبطناه منها من تجارب تعيننا في إستشراق المستقبل الذي ربما يكون في أكثر الأحيان هلامياً وغامضاً بالنسبة لكثير من الشعوب ولا سيما الشعوب النامية ,فمن فمن أحداثه التي مرت ,وعبره المستقاة يمكننا أن نتوجه إلى بناء المستقبل التربوي والاجتماعي والسياسي بخطى ثابتة وأكثر وضوحاً ,ولما كان الطفل بحاجة إلى أن نقدم له مائدة معرفية متكاملة من المفاهيم والقيم والمعارف ,فأن التأريخ يشكل جزءاً كبيراً جداً في احتياجات الطفل المعرفية ,وهذه الحاجة تزداد كلما كبر الطفل وتقدم الطفل في مساره الدراسي نحو آفاق أكثر وضوحاً وأكثر جذباً ,وهو في طفولته المبكرة يتجه نحو الاحتياجات الترفيهية ...اللونية والحركية وحتى التعليمية التي تسد في نفسه كثيراً من الفراغات التي هو بحاجة ملحة إلى معرفتها والاستزادة الكبيرة من هذه المعرفة في بناء تكوينه الثقافي وقبلها تشكل تلبية لاحتياجاته النفسية والترويحية باعتبار أن الترويج يشكل حاجة كبيرة لديه ويسعى إلى الحصول عليها بشتى الوسائل الممكنة وغير الممكنة ,المقبولة منها وغير المقبولة ...هنا تدخل خطورة العرض الخاطئ أو السلبي الذي يقدم له وآثاره الجسيمة على بنائه النفسي والسلوكي والاجتماعي والتربوي مما يقربه من ولوج مسارات الانحراف والخطأ وممارسة الأعمال المضرة وغير المقبولة اجتماعيا ً وهو غير عارف بذلك ,بل ويعتبرها من الأمور المسلم بها ,ويعتبر قناعته الناتجة من حاجته إليها أساساً للمصداقية وللتقبل بل وحتى للتمسك الأعمى به ,لهذا فأن الطفل تبدأ حاجته إلى التاريخ عندما يترك مرحلة الطفولة المبكرة ويدخل مرحلة الطفولة المتقدمة أو ما نسميه بمرحلة اليفاعة ,فيبدأ سلوكه يتأثر بالفعل ورد الفعل وبالحافز وبالمثير وبالنتيجة والتي يمكن الحصول عليها من ذلك ,فهو في الصف الرابع الابتدائي يبدأ في فهم أحداث التأريخ التي تقدم اليه كأحداث يقرأها ليس إلا ,وكذا الحال بالنسبة للصفين الخامس والسادس الابتدائيين ,فشخصية بدأت تنضج وتتكامل ومشاعره أخذت تنمو وتتوضح تجاه المفاهيم المحسوسة كالدين والوطن واللغة والقومية والصهيونية والقضية الفلسطينية والتحرر والاستقلال والاستعمار ,وهي مفاهيم كان في طفولته لا يستوعبها استيعاباً كبيراً وواضحاً لأنها غير واضحة الأفق والدلالة لديه ,لاسيما وانه غارق في فهم واستيعاب الملموسان التي يراها أمام عينيه وتمكنه من أن يمسكها ويغير شكلها وبناءها وحتى معناها ومدلولها ,وحال هذه الملموسات فكراً ومعنى ومدلولاً وغاية وتعبيراً ودلالة حال الطين الاصطناعي ذي الألوان المتعددة ,فهو قادر على أن يمسكه بيديه ويغير شكله كيفما يريد ويرغب وان يضع الألوان التي يحتاجها إلى الشكل مزجا ًاو تأطيراً ,لكن حينما تبدأ (المفاهيم المحسوسة )تتبلور لديه مع تقدمه في العمر وارتفاع معامل حصيلته الدراسية والمعرفية تأخذ هذه المفاهيم بالنمو بدرجات تتناسب مع زيادة معامل التقبل والفهم لكل مفهوم ,فالدين يأخذ مفهوماً لديه ويصبح من الأمور التي يتحسسها ويدافع عنها بشكل او بآخر وهو يستذكر سير الصحابة الأجلاء من المجاهدين الأوائل في الدين الإسلامي الحنيف , وكيف قاسوا الأمرين على يد صناديد الكفر بعد أن ثبتوا على عقيدتهم الإسلامية السمحاء ,فيبدأعنده (مفهوم الصبر ) (المبدأ) (التمسك بالمعتقد ) (التضحية ) (المقارنة ) (المحاججة) ...ومع كل هذا يبدأ عنده مفهوم الجنة والنار والعقاب والثواب بالوضوح والنضج ,وتبدأ البواكير الأول في نفسه ضمنياً حينما ينحاز الى الجمع المؤمن سلوكاً ومعتقداً وتوجهاً واصراراً ,في الوقت الذي يبدأ حقده وكرهه لرموز الكفر والإلحاد من المشركين ويتمنى لهم كل عقاب وأذية وألم لسلوكهم المشين مع المؤمنين الأوائل الذين تعاطف معهم من خلال قراءة سيرهم الجهادية في سبيل رفع راية الإسلام عالياً تحقيقاً للحق وإزهاقاً للباطل . أما مفهوم (الوطن) فانه هو الآخر مفهوم محسوس ينضج لديه شيئاً فشيئاً ,حيث توصل إلى معرفة أهميته في فترة مبكرة قبل (مرحلة الدين ) وذلك من خلال القصص التي تتمحور حول المكان الذي يسكنه الحيوان وكيف أن الآخرين وهم من هم أقوى منه قوة وعدداً ,يسعون لطرده من مكانه والاستيلاء عليه والاستفاده مما فيه من خيرات ,وغالباً ما يكون الوطن في هذه الحالة بقعة ارض أو شجرة تين مثمرة أو مزرعة فيها نبات كثير أو نبع ماء أو ضفة نهر ,أو قمة جبل وكيف أن الحيوان الضعيف يدافع عن المكان الذي يسكنه بكل ما يملك من قوة مستعملا ً ذكاءه وخبراته ,وكل ما تعلمه من أجل تحقيق ذلك فيحدث إسقاط في الربط زماناً ومكاناً وتصورا ,حيث أن ما يقرأه ينطبق كلياً على البيئة التي يعيش فيها حالياً فيكون شعور الوطن والتمسك به من خلال الزقاق والمحلة والشارع والمدرسة التي يتجزأ الوطن منها الى عدة مفاهيم منوعة بدءاً من الرحلة التي يجلس عليها الى الصف ...الى عموم المدرسة ,فيبدأ بالدفاع عن رحلته ثم صفه ثم مرحلته الدراسية كأن يكون في مرحلة الرابع أو الخامس أو السادس ثم المدرسة عموماً ,كلها تكون مشاعر متداخلة تؤدي الى نضج مفهوم الوطن الذي يكون مختلطاً بمفهوم الامتلاك أو الاستحواذ أو التوجه الجمعي من المشاعر أو العمر الزمني أو السكني أو البيئي . إن (كتابة التاريخ ) للطفل واحدة من أهم المشاكل التي تعترض أديب الأطفال ,حيث تقع عليه مجموعة من الاختيارات والتنقيحات والأحداث التي مرت والتي تشكل فائدة للطفل في الحاضر والمستقبل ,فكاتب الأطفال ملزم بقراءة التأريخ قراءة جيدة وعليه أيضاً أن يقرأ الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي يعيشه قراءة جيدة ,وبعد ذلك يعود للتأريخ لأخذ ما يحتاج اليه من أحداث وعبر ويقدمها للأطفال بشكل يجعلهم متلهفين لقراءة ما يقدم اليهم لحاجتهم الماسة الى مثل هكذا كتابات ,لأنها تمثل صورة صحيحة للواقع الذي يعيشون فيه شريطة أن يقدمه احدهم بأسلوب بعيد كل البعد عن المباشرة والتقريرية ,وان يحفز فيهم ملكة الخيال في قراءة وفهم الحدث التأريخي من جديد والتحليق في فضاءات الإبداع من أجل ربط الحدث التأريخي من كافة جوانبه،ولابد من مراعاة مسألة مهمة جداً وهي كيفية غربلة الحدث التأريخي الذي يحتوي على جوانب سلبية وايجابية في آن واحد ؟...وكيف يستطيع الكاتب أن يأخذ من الحدث التأريخي جوانبه الايجابية ويعمقها ؟وفي الوقت نفسه يقفز - وبحذر – فوق الجوانب السلبية التي فيه ,ويمر فوقها بشكل هلامي ,لا تتبين في مروره الأشكال والرموز والدلالات ,لان في ذلك إساءة كبيرة لبناء الطفل الثقافي وتكوين نفسيته وقدرته على التمييز بين الإيجاب والسلب وبين الغث والسمين في الأحداث التي مرت . إن قول الحقيقة بشكل تام وواضح إذا كانت ايجابية تشكل فعلا ًتربوياً صحيحاً باتجاه الأمام ,يساعد على البناء والتثقيف والترصين ,في حين أن الجوانب السلبية إذا تناولها كما هي حتى ولو أبدع في صياغتها وطريقة طرحها وتقديمها فإنها من حيث المضمون تشكل خطورة بالغة على البناء التربوي والنفسي للطفل ,لأنه سيحاول أن يربط بشكل واضح بين مجريات الأحداث التي حدثت في القدم ,مع مجمل ما يحدث في الوقت الحاضر ...ويعتبر ان ما حدث في الوقت الحاضر هو امتداد لما كان يحدث ,وليس غريباً ان يحدث ذلك من جديد ,فيستكين ويتراجع وتتوقف فيه كل النوازع المتحركة باتجاه الأمام ,وتكون الطاقة الكبرى في أحداث المستقبل التي ربما ترتبط بأحداث الحاضر وتشكل امتداداً طبيعياً له . ان من أهم الأحداث التي وقفت أمامها مفكراً هي كيف أقدم للطفل العراقي قصة احتلال بغداد على يد البرابرة المغول عام (656 ه/1258 م),حيث حوصرت بغداد السلام لفترة ليست بالقصيرة ,ثم رموها بالنيران والمنجنيقات وتمكنوا منها ودخلوها وقتلوا وأحرقوا ودمروا كل شي فيها ,وبعدها تربعوا على سدة الحكم وألحقت بغداد كمدينة تابعة لخارطة الإمبراطورية المغولية والتي امتدت من منغوليا شمال الصين حتى شمال أوربا ,فلو تسجل الأحداث التأريخية كما هي تسجيلاً حرفياً ملتصقاً بالحقيقة كلياً ,فان في ذلك خطورة كبيرة ومدمرة للأهداف التربوية والإنسانية والتي نطمح من ورائها في الكتابة للأطفال ,فالمسؤولية التربوية الملقاة على عاتق الأديب هي ان يعرض أحداث الاحتلال لبغداد من قبل المغول على أربعة محاور هي : 1-المرحلة الأولى /تصوير حالة بغداد قبل الاحتلال وتذكير الناس ببخل الخليفه المتهاون في الدفاع عن المدينة ضد الخطر المحدق بها,ومحاولة أبناء المدينة حث الخليفة على الدفاع عن المدينة . 2- المرحلة الثانية /تصوير الصراع القائم بين أهالي المدينة والقوات الغازية ,وما رافق ذلك الصراع من تضحيات بشرية جسيمة ,تحتم عليهم دفعها للدفاع عن المدينة واستمرار تهاون الخليفة وغرقه في لهوه وملذاته . 3- المرحلة الثالثة /تتناول احتلال بغداد وما تعرضت له من خراب ودمار على يد المغول . 4- المرحلة الرابعة /تتناول انسحاب المقاتلين من المدينة وتوجههم الى نواحي بلاد الشام ومصر وتعاونهم مع الرموز الوطنية التي تريد إلحاق الهزيمة بالمغول كالظاهر بيبرس وتعاونهم معه لإلحاق الهزيمة بالمغول فيما بعد في معركة (عين جالوت ) ومن ثم التوجه الى بغداد لتحريرها . ربما يتساءل البعض أين المصداقية تحديداً في المرحلة الرابعة ,حيث يكون الجواب : - الأدب وخاصة أدب الطفل هو ليس وثيقة تأريخية مختومة بأختام رسمية وموثق بصدق الأفعال والحوادث صدقاً مطلقاً ,حيث ان أدب الطفل هو مرآة لما نريد من توجه تربوي وبنائي نريد ان نربي عليه أطفالنا ,فيكون دور الأديب هنا هو اخذ (ثيمة) تأريخية بإطارها العام ومن ثم يكون له الحق في النقش والكتابة على هذه (الثيمة) بالاتجاه التربوي المطلوب ,ترى ما قيمة ما نقدمه للطفل إذا كان حقيقة مئة بالمئة ؟!!!وبالنتيجة يصيب الطفل إحباط ويأس ونكوص مما جرئ من صدق الأحداث وبالتالي يتقمص الطفل دور التراجع أمام النوازع والدوافع الوطنية التي نريد غرسها فيه توجها ً لبناء جيل يسير في هذا المنوال . قد نختلف في الطريقه والعرض وكمية ونوعية الاقتباس ,ولكن لا نختلف في الغاية والنتيجة ,حيث تقع على عاتق كاتب الأطفال مهمة كبيرة جداً ,وهي غرس القيم والمفاهيم الوطنية والتربوية في نفوس الأطفال مع شي من المتعة والتعليم والتثقيف .ان منطقتنا الشرق أوسطية عموماً والعراق خصوصاً يتعرض الى مؤامرة كبرى لمسح هويته وسلخه عن واقعه الذي تجذر فيه ثقافة وحضارة وإنتماء وهناك مؤسسات كبرى عالمية المنشأ والتخطيط ,شرق أوسطية التنفيذ ,كلها موجهة الى تخريب وتدمير عقلية الطفل من خلال قطع كل الوشائج بينه وبين عمقه التأريخي وحضارته الممتدة الى آلاف السنين من خلال ما يقدم إليه من ثقافة غربية ورؤيا غير متبلورة وغير منتمية للأحداث التي تؤثر فيه أو التي يريد التأثير فيها ,والغاية من كل هذه الهجمة المشبوهة والمعادية هو ان يخلقوا طفلاً بلا تأريخ بلا رؤيا ...بلا إنتماء ...ترى ماذا نحن فاعلون ؟...أجيبوني!!!
|