العراق في المرحلة الآرامية ـ المسيحية

 

 

 

 

 

العراق تايمز: كتب  سليم مطر ــ تعاقب على العراق طوال تاريخه المجيد والمليئ بالأحداث، الكثير من الحضارات التي سبغته بميزاتها وحاولت أن تطبعه بأسسها الثقافية وتؤثر في مكوناته الاجتماعية ولعل المرحلة الآرامية – المسيحية كانت تتغي ذاك التأثير بكل الوسائل.

للأسف إن جميع المؤرخين، عراقيين وأجانب لم يعتبروا هذه الحقبة من تاريخ العراق التي دامت أكثر من ألف عام، مرحلة واحدة. بل اعتبروها مراحل حسب السلالات الأجنبية التي حكمت العراق: أخمينية ويونانية وبارثية وساسانية. علما بأنها تعتبر أخطر مرحلة في تاريخ العراق لأنها سبقت ومهدت مباشرة للمرحلة العربية الإسلامية. ولا يمكن أبدا فهم عملية تعريب وأسلمة العراقيين دون دراسة وفهم هذه المرحلة المهيئة والتأسيسية.

تبدأ تلك الحقبة بسقوط آخر دولة عراقية ـ بابل في 539 قبل الميلاد على يد الفرس الأخمينيين، حيث بسط الإيرانيون نفوذهم على بلاد النهرين حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع، أي ما يقارب الـ11 قرناً. في هذه الحقبة، كانت الغلبة للسيطرة الإيرانية، التي دامت أكثر من تسعة قرون: الأخمينيون (قرنين)، البارثيون (ثلاثة قرون)، الساسانيون (أربعة قرون)، وقد قطعت السيطرة الإيرانية بسيطرة يونانية دامت قرنين، بين القرن الرابع والثاني قبل الميلاد. لهذا فإن جميع الكتب والنصوص التي تخص تاريخ العراق، اعتبرتها حقبا عديدة تحمل مسميات الدول المحتلة. وكان الأصح اعتبارها حقبة واحدة للأسباب التالية:

-  رغم تغيير الدول المحتلة، فإن العراق والمجتمع العراقي ظل موحدا لغويا ودينيا.

-  ظل موحدا جغرافيا لأن وحدته الطبيعية حول النهرين، والتي فرضت على المحتلين احتلاله كاملا أو التخلي عنه كاملا.

-  ظل هو نفسه من الناحية السكانية، مع استقباله كالعادة لهجرات جديدة شبه بدوية ومحاربة، تحمل تسمية “آراميين” ربما قدمت من الحدود السورية أو البادية الغربية.

-  ظل كله موحدا ثقافيا ولغويا، حيث حلت اللغة الآرامية محل اللغة الأكدية (البابلية ـ الآشورية) التي ظلت اللغة الوطنية لحوالي 3 آلاف عام. علما بأن اللغة الآرامية الجديدة شبيهة إلى حد كبير باللغة الأكدية، وهي من نفس العائلة اللغوية السامية الشمالية.

-  من الناحية الدينية، ظل العراقيون متمسكين بديانتهم الأصلية (السومرية ـ البابلية ـ الآشورية) القائمة على عبادة النجوم ورموز الخصب. وفي القرن الثاني الميلادي بدأوا يعتنقون المسيحية القادمة، التي أصبحت ديانة الغالبية الساحقة من العراقيين، مع وجود أقليات دينية يهودية وصابئية ومانوية، كلها أيضاً ناطقة بالآرامية.

المتغيرات الحضارية الكبرى في العراق وعموم الشرق الأوسط تضمنت هذه المرحلة متغيرات حضارية كبرى حدثت في بلاد النهرين وعموم الشرق الأوسط، من جميع النواحي، السكانية والدينية واللغوية.

حتى الألفية السابقة للميلاد لم تكن هنالك أية حضارة كبرى قائمة على الكتابة خارج الشرق الأوسط (العراق والشام ومصر والأناضول وإيران).

تعود بدايات الثورة إلى الألف السابق للميلاد، حين نشط الآريون، أو الهندو- أوروبيون وهم قبائل رعوية بدوية منتشرة في وسط آسيا (جنوب روسيا)، ولا تمتلك أية رابطة عرقية، بل مجرد تحالفات وتبادلات مصالحية ولغوية ودينية.

بعد محاولات دامت بضعة قرون تمكن الإيرانيون ثم اليونانيون وورثتهم الرومان، من الانتصار واجتياح مراكز الحضارة الكبرى والأولى أهمها العراق ومصر. وبهذا تغيرت موازين القوى تماما ومعها الخارطة الحضارية للعالم بصورة ثورية وجذرية. هذه المتغيرات كانت من العمق والتأثير بحيث يمكن اعتبارها ثورة تاريخية جذرية كبرى. ومن أهم معالمها، انتقال مركز الحضارة والقيادة إلى أوروبا (اليونان ومقدونيا وإيطاليا) وكذلك إلى آسيا (إيران والهند والصين). وتحول المشرق العراقي الشامي المصري إلى تابع رغم احتفاظه بأهميته التاريخية والإستراتيجية الطبيعية.

المتغيرات السياسية والدول الأجنبية

خلال أكثر من 11 قرنا غابت تماما أية دولة عراقية، وتحول العراق إلى ساحة للحروب والمنافسة والتآمر بين القوتين الكبريين المتنافستين: إيران والدولة الأناضولية ـ الأوروبية التي تنوعت حقبها تحت مسميات: اليونان، والرومان والبيزنطينيين.

تخللت هذه الحقبة ثورات وتمردات فاشلة قام بها العراقيون، رغم السيطرة الإيرانية الغالبة، إلاّ أن الرومان وبعدهم البيزنطينيون، عندما كانوا ينجحون أحياناً باجتياح العراق ينتقمون من العراقيين قتلاً وحرقاً لمدنهم. فالإمبراطور الروماني تريانوس بعدما فتح المدائن سنة 115 ميلادية أضرم لهيب الاضطهاد في العراقيين وأهلك منهم الكثيرين.

ويبدو أن مدينة بابل ثم بعدها الحضر، وأخيراً الحيرة، بقيت عامل جذب وإغراء على الدوام لجيوش الغرباء التي غزت النهرين. فالإسكندر الذي مات في بابل كان يحلم بجعلها عاصمة له. وقدم إمبراطور الرومان تراجان القرابين في الغرفة التي مات فيها الإسكندر عندما كان في بابل ربيع عام 116 ميلادية، أي بعد مرور أكثر من 400 سنة. كذلك طمع الرومان في كنوز معبد الشمس في الحضر. أما الفرثيون والساسانيون فقد عقدوا آمالهم على احتلال سلوقية لضمان السيطرة على العاصمة السياسية قبل اهتمامهم ببابل. بل إن الساسانيين أسهموا في تدمير بابل تدميرا نهائيا، وجعلوها مهجورة إلى الأبد قبل أن ينتهي القرن الخامس الميلادي. ومع أن الروايات تذكر أن أسوار بابل كانت ما تزال قائمة غير أنها من الداخل كانت خرائب تسرح فيها الوحوش.

تكرار التاريخ

إن مشكلة العراق الكبرى، تتمثل في كونه مركز الشرق الأوسط وساحة صراع الدول المتنافسة المحيطة به. كل دولة تريد السيطرة عليه ليس فقط طمعا به، بل لكي تمنع الدول المنافسة من السيطرة عليه واستخدامه ضدها.

وأكبر قوتين متنافستين دائما للسيطرة على النهرين، هما إيران والأناضول. حيث أن العراق في تلك المرحلة الآرامية التي أعقبت سقوط بابل، أصبح مسرح الحروب بين دول إيران المتعاقبة (أخمين ثم بارث ثم ساسان)، ودول الأناضول المتعاقبة: (إغريق ثم رومان ثم بيزنط). وهذه المرحلة تشبه تماماً المرحلة الآسيوية التي أعقبت سقوط (بغداد) ونهاية الدولة العباسية العراقية، حيث أصبح العراق ساحة منافسة وحروب بين القوتين الكبيرتين على حدوده، الدولتين افيرانية والعثمانية. كان الإسكندر المقدوني يكّن إعجاباً وهيبة كبيرتين لبابل، التي لم تزل تحمل سمعتها السابقة كعاصمة حضارية للعالم. وعندما اقترب من أسوار بابل طلب من جنوده الاصطفاف والانتظام في مسيرتهم، وأراد أن يظهر للبابليين أنه جاء لتحريرهم من البطش الفارسي. ففتحت البوابات وخرج كبار المسؤولين لاستقباله.

وجاء قائد الحامية الفارسية بقطيع من الأغنام والخيل، ومن ورائه الكهنة يرتّلون أناشيدهم ويعزفون موسيقاهم. ودخل الإسكندر المدينة ممتطياً عجلته الحربية، حتى وصل إلى قصر الملوك وسط بابل الذي بناه نبوخذ نصر. انبهر بالحضارة البابلية وأراد أن يجعل من بابل عاصمة امبراطوريته العالمية. لكن كما يبدو إن حاشيته تخوفوا من هذا الانقلاب الثقافي الكبير الحاصل في ملكهم فقرروا التخلص منه. ويعتقد أنه مات مسموما.