النموذجان المختلفان في العراق

 

القاعدة العلمية الدارجة والمتعارف عليها منذ النشأة الاولى للانسان تقول ان المجتمعات الادنى ثقافة وفكرا وحضارة ترنو الى المجتمعات الاعلى ثقافة وحضارة، الريف يتطلع الى المدن، والمدن الصغيرة الزراعية الاقل ازدهارا وتطورا تتطلع الى المدن الكبيرة الصناعية المتطورة، وهكذا الامر بالنسبة للدول ايضا، الدول النامية تقتدي بالدول المتقدمة ان كانت تريد ان تتعصرن وتواكب الحداثة، لا يمكن ان يحدث تطور من دون السعي اليه، كثيرا ما اشير الى ان المجتمع الكردي له استعداد للتطور والتحضر وتخطي حالة التخلف القائمة في العراق اكثر من المجتمعات العراقية الاخرى، وقد ظهر ذلك عقب سقوط النظام البعثي عام 2003 وقيام النظام «الديمقراطي» الجديد بتخصيص جزء من عائدات النفط 17% من الموازنة العامة له، استطاع ان يستفيد من هذه النسبة في تطوير مؤسساته العمرانية والاستثمارية والامنية ووضع آلية لاحداث التغيير المنشود بصورة لفتت انظار العالم اليه، فتقاطرت كبريات الشركات التجارية والاستثمارية العالمية الى اقليم كردستان، وقامت بتوظيف رأسمالها في مشاريع عملاقة، وكان لـ«قانون الاستثمار» الذي اصدرته حكومة الاقليم عام 2006 ووافق عليه البرلمان الكردستاني، الاثر البالغ في توجه الاقليم نحو اقتصاد السوق وفتح ابوابه على مصراعيها بوجه التجارة الحرة حتى وصل حجم تبادله التجاري مع الدول الى «22 مليار» دولار، فإذا كان الاقليم قد شهد ازدهارا عمرانيا وحضاريا عبر حصته المالية من الميزانية العامة للبلاد والتي لاتزيد عن 17% بينما عجزت الحكومة العرقية عن تحقيق جزء من هذا الازدهار للمحافظات الوسطى والجنوبية من خلال النسبة الباقية من الميزانية وهي (83%) من مجموع الموازنة الضخمة البالغة 118 مليار دولار لهذا العام، فإننا ندرك حجم الفساد الموجود في المؤسسات الحكومية العراقية التي يديرها التحالف الوطني الشيعي والفشل الاداري الذريع الذي مني به مسؤولو هذه الحكومة، وكذلك نلحظ الفرق الشاسع بين المجتمعين «الكردي والعربي» بشقيه السني والشيعي.. وبدل ان تقوم الحكومة العراقية بردم الهوة الحضارية التي تفصلها عن المجتمع الكردي والاحتذاء بتجربته الناجحة ومحاولة الاستفادة من جوانبها المشرقة وتعميمها على البلاد، نراها تضع العراقيل امامها وتحاول تقويضها بكل الوسائل حتى العسكرية منها، فالصراع بين المجتمعين والشعبين المحصورين بقوة في اطار دولة مصطنعة صراع حضاري وثقافي قبل ان يكون صراعا سياسيا اوعسكريا او اي شيء آخر، فلا توجد مشتركات كثيرة بينهما، وحتى مفهوم الدين والوطنية والولاء للدولة يختلف بينهما، واي محاولة لفرض الارادة بالقوة القمعية تحت اي مسميات او شعارات تبوء بالفشل، وقد حاولت الحكومات العراقية المتعاقبة عبثا ان تجبر المجتمع الكردي ان ينصهر في العراق العربي ولكنها فشلت وخابت بعد ان هدرت الطاقات البشرية للبلاد، والعجيب انها مازالت تحاول ان تحقق ما عجزت عنه سابقا وتخضع الاكراد لإرادتها ولكن بطريقة جديدة و تحت غطاء الديمقراطية والانتخابات والاغلبية السياسية والتوافقات ومفاهيم اخرى جديدة جاءت بعد سقوط النظام البائد.. ومع ادعائها بحمايتها لتلك المفاهيم والتمسك بأهدابها لصنع عراق ديمقراطي تعددي دستوري، فانها ما انفكت تناهض فكرة «الفدرالية» التي يتبناها الاكراد وترفض اعتمادها في باقي اجزاء العراق، بل وتعتبر اقامة الاقاليم والفدراليات مروقا عن وحدة الصف الوطني وتمزيقا للبلاد وتمهيدا للانفصال والتقسيم، مع ان نظام الحكم الجديد بني على اساس الفدرالية وفق المادة الرابعة من الدستور العراقي، والذي يقضي بان العراق جمهورية اتحادية فدرالية، ولكن حكومة المالكي تصر على اعلان موقفها الرافض لها والوقوف بشدة بوجه الداعين لها، سواء في غرب البلاد او شمالها، بهدف بسط سلطتها على كامل الاراضي العراقية، وهذا يظهر السر في محاربة حكومة «المالكي» للاقليم «الفدرالي» القائم في كردستان وعدم التوصل معه على اي اتفاق لإنهاء الازمة القائمة بينهما لحد الان، وسيزداد هذا العداء للتجربة الكردية الرائدة في الايام القادمة، بهدف اجهاضها او على الاقل منع تجربة مماثلة من الظهور في اي مكان آخر من العراق، لانها تمثل عقبة كأداء بوجه مشروعها التوسعي وتحديا لها وتذكرها دائما بفشلها في ادارة البلاد وتقديم الخدمات لشعوبها.