اللاجئون الأوائل: رائحه بطعم الزعتر




القلم والكتاب يمنع عنا الجنون، كأننا نعيش في مصنع يصدر لعقولنا الجنون، نستقوي على واقعنا بأيام مضت، نحاول دون جدوى استحضار تلك الوجوه المتعبة، كنت كغيري ادعي كذباً أن المخيم يسكنني، كان ادعائي مجرد شعار معلق في سوق المناكفة ألوطنيه، لم اسبر أعماق المخيم فانا انتمي لجيل تشرب بالنرجسيه، وبوضوح أكثر لم اقرأ الواقع الذي عاشه الرعيل الأول كما هو فكان الهروب للتمرد على الواقع وكأنني أعيش قفزة في الهواء.

هل هو الهذيان؟؟؟ قد يكون كذلك، فمنذ أشهر لم تفارق مخيلتي صور المتعبين من اللاجئين الذين تلقوا الضربة الأولى، أحاول أن اربط النتيجة بالسبب دون طائل، لكنني اجزم أن تلك الأيقونات التي هامت على وجوهها في البدايات لها علينا حق، أليس من حقهم علينا أن يكتب تاريخهم دون تزيف.

أدرك أن لا شأن للبعض الكثير بهذا الجنون، لكنني عندما أرى وجع كلمات التأبين لأب تجاوز المائة عام أدرك تماماً أن جيلنا يعيش الغربة القاتلة التي تدفع بك للجنون، فالجنون بحد ذاته أن تعيش تداعيات الهزيمة والنهوض ثم تغرق بمستنقع الهزيمة مرة أخرى.

لا أميل للمقال الطويل، لكنني أخشى أنني سأسهب علني أجد سبباً لهذا "الشذوذ" الفكري بمفهوم المرحلة التي أعيش، فشيطان الكتابة يتلبسني رغم أنني قررت العزوف حتى أجد من بترحم علي بعد موتي، لكنني في كل مره افشل وينحصر معسكر الأصدقاء ويتضخم معسكر الأعداء وهناك القليل من أبناء مرحلتي مثلي وكأننا نعيش رواية الكاتب القرغيزي وداعاً يا غولساري. 

ليس هذا ما يقلقني، فانا مدرك أننا نعيش مرحلة عاهره، مرحله لا علاقة لها بالفسيفساء كما يحلو للبعض وصفها، فالتطبيع والتسلق والوصوليه والفساد اليمني واليساري والأذناب وكل ما شئتم من اتجار بالتاريخ والجغرافيا لا يمت للوحة الفسيفسائية بصله.

شيطان الكتابة الفيسبوكيه والمقال لا يعدو أكثر من حبة اكمول توقف الصداع إلى حين، انه الصداع اللعنة والأرواح التي تطاردنا، أرواح كانت هنا في الشوارع التي نمشي فيها، سكنت هنا في الخيم وغرف الباطون الباردة شتاءاً والحاره صيفاً، نمر مروراً سريعاً عنهم في أحاديثنا كأننا ندافع عن أنفسنا، نتحدث عن عذاباتهم وأوجاعهم وحياتهم القاسية ونحن نحتسي النس كافيه والكبتشينو، نتلذذ بواقعهم الصعب، ونتشدق بصمودهم الذي لم يسعفنا.

انه مستنقع الذاكرة المثقوبة التي لا تراكم الفكرة والخيمة التي أوجدت الثورة لتصبح في زمننا ديكوراً نلقي بها على الأرصفة معلنين تمسكنا بحق العودة الذي فرطنا فيه بممارستنا اليومية، هكذا نحن بعنا أرواحنا وكل اوجد لنفسه مخرجا.

قبيل الموت يتحدث الإنسان مع الموتى، هكذا كان والدي في أيامه الأخيره، كان يتحدث مع الأموات، ينادي وهو فاقد الوعي على أبيه وأمه وأخوته الذين سبقوه، في ثقافتنا نستغرب من الحاله ونبدي اندهاشنا وتعاطفنا وحزننا، لكن العلم يعزو هذا السلوك للدماغ الذي يبدأ بالموت، والمتدينين يقولون العلم عند الله.

هل هو الموت؟؟؟ ممكن، فالموت يأتيك بأكثر من شكل، الموت الجسدي، الموت الروحي ، الموت الوطني، الموت ألقيمي والاجتماعي والفكري، وموت الثوابت وهو أبشع أنواع الموت، والثابت ليس بالضرورة أن يكون شموليا، قد يكون موتاً قيمياً.

وعلى ذكر الموت ألقيمي، أن تصبح عكس ما كنت عليه وان تصبح مجرد ظاهره صوتيه لا أكثر، بمعنى انك تستمريء الكذبة وتدور في الساقيه وتضع الشوافات وأنت مدرك لسلوكك الذي لا يمت لك بصله، وعكس ذلك عليك أن تعيد حساباتك التي هي سنوات عمرك بكل الغث والسمين فيها.

كل ما سبق يعيدك للخطوة الأولى، وهذا يعني إعادة إنتاج تاريخك، ولا بأس من التماشي مع شيطان الكلمة وبث الروح في الأجساد لتنبعث من التراب، عندها تعود بعجلة الزمن إلى الوراء حيث ألمحاكمه كما اخبرنا الكاتب الجزائري الطاهر وطار في رائعتة الشهداء يعودون هذا الأسبوع.

أن نعود بعجلة الزمن حيث الخطوة الأولى يعني استخلاص العبر وانقلاب المواقف والتمعن أكثر في الحياة التي كانت، وهذا يعني أن تجثوا على أقدامنا لتقبيل أرجل أمهاتنا وآبائنا لأنهم كانوا أكثر إيماننا منا، كانوا بسطاء لكنهم امنوا حتى الرمق الأخير بمعتقداتهم، لم يحيدوا الطريق ولم يخونوا ألفكره.

مئات الأشخاص في حياة كل منا، هؤلاء لا زالوا ينبضون بالحياة، أنهم مقاتلون حقيقيون، صمدوا خلف الجدار الأخير واختبروا الجوع والفقر والحرمان والذل ولم يقايضوا، مناضلون لم يقبضوا ثمن نضالهم، مناضلات بالأثواب المطرزة كن حارسات للنار المتقدة في صدور مئات الشباب، كن يتقدمن الصفوف، وكن الملهم.

هذا الجيل له رائحته التي لا تشبهها رائحه، وإذا قدر لكل منا ألان استحضار تلك الرائحه اجزم أنها ستغير فينا شيئاً، وأتخيل أن تلك الرائحة رافقتهم في رحلة العذاب والموت يوم النكبة الكبرى.

من العار علينا أن لا نكتب تاريخنا كما هو، وقد آن الأوان أن نعيد الحياة لهم علنا نعيش العلاج والخلاص الروحي، أن نكتب التاريخ بدون بكائيات،حتى يعرف الأحفاد كيف كان الأجداد، التزامنا بإعادة الحياة لتلك المرحله هدف مقدس، هدف يعفي الواحد منا أن يكون محللا سياسياً على سبيل المثال، لأنك أينما درت بوجهك تجد المحلل السياسي، والخبير في كل الشؤون، خبراء بالمئات ونحن نعتمد شعار خطوه في الهواء وخطوتان إلى الخلف.