رواية "الخامس و العشرون من أيلول" لعامر موسى الشيخ و ماجد الوروار ... بقلم/ نوميديا جرّوفي |
(الخامس و العشرون من أيلول) ليست رواية فقط بل هي وثائقيّة، أبطالها حقيقيّون، و سردها واقعي بكلّ تفاصيله. هي وثيقة حيّة لإدانة الحكم البعثي السّابق بكلّ همجيّته التي ارتكبها في حقّ خيرة شُبّان ذلك الزّمن. و الصّفحات تحملُ في طيّاتها أرعب كوابيس ذلك الزّمن المرعب، و تكشفُ المستور عنه لمصير أولئك الجنود العائدين مشيا على الأقدام بعد انكسار الجيش في حرب عام 1991. صفحات تكشفُ ما عاناه الشّباب اليساريّين في زمن الدّيكتاتور من سجن و تعذيب تقشعرّ له الأبدان،همجيّة لا توصف، مقابر جماعيّة، أهلٌ يدفعون ثمن رصاصات إعدام أبنائهم المستسلمين من الحرب، إعدام الثائرين الشّجعان مصلوبين في أعمدة كهربائية و ما لا طاقة للنفس البشريّة من تصوّره. صفحات تقصّ علينا عن حركة الأنصار في كردستان العراق و أولئك البيشمركة الذين عانوا الكثير من ويلات الهمجيّة أيضا. هي رواية جسّدها لنا الشاعر والكاتب (عامر موسى الشيخ) بسرد صديق طفولته و ابن مدينته السّماوة و بطل الرواية (ماجد الوروار). ماجد سرد لنا أوجاع عائلته التي هي رمز من رموز خيرة أبناء السماوة، و كشف لنا تقاسيم حزن أمّ شهداء و حرارة أوجاع ثكلى ذهب ابنيها في عزّ شبابهما شهيدين (كاظم و وصفي) ليلحق بهما أخوهما (قاسم) حسرة و كمدا و حزنا بعد أن أصيب بداء السّكري، و في بداية هذه السّنة في 28/02/2016 استشهد المقدم البطل (علي الوروار) في أبي غريب دفاعا عن الوطن من الدّواعش. أمّ عظيمة و قويّة، بيتها مُنار و مُشعّ بالأرواح الخالدة للشّهداء..إنّه منزل آل الوروار. صفحات جاءت بسرد أدبيّ لامع بإبداع الشاعر والكاتب (عامر موسى الشّيخ) الذي وصّل لنا رسالة إنسانيّة عظيمة .. حيث اعتمد في البناء السردي على استنطاق البطل في اطار سردي قائم على تقنية الاستذكار والفلاش باك فضلا عن بث الرسائل التي وضعت بين الاقواس طوال المبنى السردي للعمل .. السّماوة.. أرض أوروك و كلكامش مروّض الأسود ..أرض ترتدي السّواد منذ موت أنكيدو.. أرض تتشكّل فيها المواكب الجنائزيّة.
رواية (الخامس و العشرون من أيلول) أعادتنا للوراء لتاريخ حرب الخليج عام 1991 و ما عاناه ماجد و هو في الجيش حينها في الطّريق للعودة للسماوة قبل خمسة أيّام من بدأ الحرب، و كيف كانت مشاعره و هو في طريق عودته مرّة ثانيّة للثكنة مع رفاقه الجنود و كلّ ما عاناه عائدا للسماوة و راجعا لمقرّه في ثكناه مع رفاقه، و يتداخلُ في السّرد العودة للماضي بجماله و كوابيسه و طفولته و شبابه.
أدب الرواية:
تنتمي الرواية إلى الأدب الواقعي إضافة إلى انفتاحها على السيرة الشخصية فضلا عن لغتها الشعرية و الرشيقة، معتمدة على ذاكرة الأشخاص الأحياء ،وسرد قصصهم في إطار سردي؛ يستخدم طريقة الحوار وتسجيل الأحداث على جهاز تسجيل صوتي ، ويكون هو المتحدث، ليتلاشى صوت الكاتب مع صوت البطل، وجعل البطل الراوي العليم هو الناطق ، لكن عبر جهاز التسجيل ، ليتحول إلى وثيقة تاريخية ناطقة بالأحداث الحقيقية .. واشتملت الرواية أيضا على اللهجة العراقية في بعض الفصول،نأخذ على سبيل المثال الحوار التالي:
بعد أن سمع كلماتي ترك الشاي هاربا ... !! تركني، من دون أن يعلّق، لكنّه أظهر ابتسامة مكبوتة و هو يطأطئ رأسه ليلوذ بصمت عميق !
ذكريات من همجيّة النّظام البعثي:
يقول ماجد: " تذكرت الرطوبة التي يُخلّفها بخار القطار عند وصوله إلى السماوة حيث كنا نلعب بين أروقة المحطة ، نعم إنّها محطّة السماوة ذائعة الصيت ملتقى القطارات وتحديد وجهتها ، من هذا المكان مرّقت نخبة العراق وصفوته !!! إنّها تلك المحطة التي شهدت الملحمة الإنسانية التي سطّرها أهل السماوة بين تفاصيل هذا المكان , جلوسي على المصطبة ذكرني ببيتنا القديم و تلك الليلة التي سردت فيها أمّي علينا قصّة قطار الموت حينما مرّ بالسماوة قاصدا سجن نقرة السلمان ، كان ذلك في تموز من العام 1963 ، كان سائق القطار قد وصلت له معلومة بأنّ القطار النّازل من بغداد يحمل في عرباته ( الفراكين ) أغناما و ماشية ( حيوانات) ، خطّة مسير القطار كان معدّاً لها بأن يسير ببطيء ثمّ يقف عند محطّتي الحلة و الديوانية على أن يصل إلى السماوة ببطء أكثر في خطة من قبل الحكومة القمعية ، أتت متوائمة مع الظّروف المناخية القاسية و تهدف إلى قتل من في القطار .. سائق القطار عبد عباس المفرجي قد علم بأنّ القطار معبأ بالمعتقلين و عرف ذلك لحظة توقّفه في محطة المحمودية ، هذا التوقّف غيّر من كيانه و فكرته التي زرعتها السلطة بأنّه يحمل حيوانات و ماشية ، إلاّ أنّه علم بأنّ القطار فيه خلاصة الوعي العراقي , و من ضمنهم الشاعر مظفر النواب ، عريان السيد خلف الكاتب الكردي محمد جميل روزبياني ، القائد العسكري محمد جعفر جلبي ، الشاعر خالد الشطري ، الشاعر علي الشباني والكاتب أبو سرحان و غيرهم من الأكاديميين و الأطباء و الحقوقيين و المثقفين ، اعتقلوا بسبب انتمائهم إلى الحزب الشيوعي العراقي و أيضا كانوا من رجال الزعيم عبد الكريم قاسم ، وجهة القطار الأخيرة كانت محطة السماوة على ان يتم نقلهم إلى سجن النقرة ، وبطبيعة الحال ووفقا للخطة هي نقل الأحياء منهم فقط وتنفيذ حكم الإعدام بهم في سجن النقرة عن طريق الضابط عبد الغني الراوي . اخترق القطار محطتي الحلة والديوانية بسرعة فائقة على عكس ما أمر به السائق ، عربات القطار ( الفراكين ) كان قد أحكم غلقها من الخارج مع طلاء دواخلها بمادة الإسفلت الذي سيتفاعل مع حرارة الصيف والحديد ليتحول إلى مادة حارة سائلة تهدف إلى سلخ جلد من في العربات ...) و الإصرار الإنساني لدى أهل السماوة ساهم بإنقاذ ما يُقاربُ 500 مُعتقل.
و يقول ماجد أثناء عودته في ذلك الطريق المجهول محدّثا نفسه:
"ها نحن نجتمع مرّة أخرى عند هذه النقطة من الخلفيات التي صارت أماميات، لا نعرف كم من الجنود تمّ إعدامهم هنا بسبب هربهم و لا نعرف من بين هذا الجمع من قام بتنفيذ أمر الإعدام القسري، كان النظام يهيّء الخلفيّات العسكريّة لهذا الأمر آمرا جنديّا مغلوبا على أمره بإطلاق رصاصة على الهارب يتمُّ دفعُ سعرها من أهله..".
الذكريات و الطّفولة من الزّمن الجميل:
يقول ماجد: " طرف جمرة سيكارتي لسع موضعها بين السبابة والوسطى ، هذه اللسعة ذكرتني كيف كنت أدخن هنا مع أصدقاء دراستي حينما كنّا نحول هذه المصطبات إلى قاعات دراسية كبيرة بلا سقوف ، الهواء البارد الذي يُلامس عارضي المحلوقين قبل ساعة ، ذكّرني بذلك الشتاء حينما كُنّا نغادر الدروب الضيقة بحثا عن فضاء رحب من أجل التركيز بالدرس و الأحلام المؤجلة ، لستُ أنا و أصدقائي فقط كنّا ندرسُ هنا ، لا ، بل كلّ أبناء الغربي و الشرقي من طرف السماوة الكبير كان قد اتّخذ من مساحات المحطة المترامية الأطراف أماكن للدرس و الاجتماعات الحزبية و اللقاءات العاطفية و غيرها ، حتى الحرامية كانوا يلوذون بين عربات القطارات المتوقفة و العاطلة".
عن ذكريات الطفولة و الأعياد يقول ماجد: " إلاّ أنّ دمعات بنيامين شقيقي الأصغر كبحت هذه الرغبة، و أنا أحاولُ المزاح، تذكّرتُ أيضا شقيقي علي الذي تشارك مع بنيامين بنفس الدموع كان ذلك عند اليوم الأول من أحد أعياد رمضان، حينما استحصلنا على العيديات من والدي و اشقائي الكبار محمد و قاسم و أخوالي عبد و جبار، أنا بدوري تبرّعتث بأخذ بنيامين و علي إلى المراجيح التي تبعدُ عن بيتنا في الغربي على ما يربو المائتي متر إلى ما خلف محطّة القطار (الزقورة)"
الوصول للوحدة و ترقّب يوم الهجوم:
في قول ماجد:" الصعود في الايفا اضاف تعبا آخرَ لمفاصلي المتعبة من الليلة الفائتة ، حالة الترقب أخذت مأخذها على محيا الجميع ، الكل فاغرٌ فاهه ، هذا الترقب جاء بسبب ان تأريخ الهجوم البري هو يوم 16/1/1991 وهو الموافق يوم غد ".
الرهبة من مصير مجهول:
يقول ماجد:" وكيف أنّي تركت السماوة و أهلي عائدا إلى الجبهة حيث الموت المحقق ، هم لا يعرفون من أي مصيبة أنا قادم وكيف أني لقمة قفزت من فك حوت الأمن الصدامي وهم لا يعرفون أيضا بأني هنا في المعسكر أستطيع البقاء أكثر فترة ممكنة في الحياة ، لا غرابة أنها بلاد تعددت صور الموت الجاهزة فيها ، وما عليك سوى ان تلتقط صورة ليأتي من بعدك أحد يعلق الصورة على حائط كَسَتهُ الرطوبة واضعا عليها شريطا مائلا اسودَ , وجملة مذيلة توفي بتاريخ كذا ، الفاتحة ! أو لا تُعلق صورتك خوفا منها كونك و أنت ميت تكون مصدر قلق لأهلك".
ليأتي بعدها نوم متقطّع يتخلّله كابوس الصّواريخ في قوله: " لاسيما فصّ الأحلام حيث أخذني بطيفه, أوصلني إلى واحة رملية تحسستها بقدمي و أنا وسط صحراء بلا ملامح ، مشيت فيها بلا تحديد لوجهتي إلى أين لا اعرف ..؟؟ وخلال مشيتي تحسست أرضا رملية رخوة ، الأرض سحبت قدمي ، الرمل لفني ، اخذ قدمي الثانية ، بدأت العوم ضاربا يدي وكأني وسط نهر إلا أنه ليس نهرا ، الرمل تمكن مني ، أغرقني ، بدأت أصرخ ، أصرخ حتى خفت صوتي من شدة الاختناق بالرمل جاء صوت مدوياً ، استيقظت فزعا لأجد نفسي غارقا بتراب الملجأ وأذاني تعاني الصرير من شدة سقوط الصاروخ بظهر الملجأ ، نهضت نافضا التراب باحثا عن زملائي . أووف لقد بدأ الهجوم . "
العودة للماضي:
يقول ماجد: "حلكة الليل البارد ألبستني رداء الماضي الساكن في صناديق التذكر المعلقة في رأسي المضطرب ، ههههه ، ها هي أصوات قرع أحجار الدومينو على ضفاف الفرات في مقهى علي سلمان ، حضرت متذكرا لحظة محاولتي عبور شارع العيادة الشعبية متجها إلى أصدقائي بعد يوم مضنٍ بكافة تفاصيله قضيناه في إعدادية السماوة الصناعية ، كنا نلبس من الدراسة في الصناعة درعا واقيا ضد الوقوع في فخ الحرب العراقية الإيرانية أنا مثلا قضيت فيها خمس سنوات متباطئاً راسبا عن قصد ، لان المتخرج من الصناعة لا يجد أمامه غير الالتحاق بالجيش ، أيضا لم تكن هذه المدة وقت هدوء بالنسبة لي ولأقراني إنها زمن الأحلام مدفوعة التحقيق إلى الأمام ، زمن التدخين و الإحساس بالرجولة ، قصص الحب ، كتابة الرسائل بأخطائها الإملائية ووضعها بظروف حمراء عليها صورة قلب يخترقه سهم في نهايته الحرف الأول من اسم العاشق الذي ضربه اسم العشيقة و إلى الأسفل نرسم وعاءً يجمع قطرات الدم المتساقط من القلب المخترق ، ليس هذا فحسب ، بل زمن انتقال بين الطفولة والشباب ، فكان الحنين إلى لعب الدعبل و الصكلة و التصاوير عادة ما تحضر ، فكنا حين نمر بالدرابين وبقمة الأناقة ونلاحظ الصغار يلعبون نحاول مشاركتهم اللعب بداعي الخبرة المسبقة والمتراكمة في معرفة أصول هذه اللعبة ، نعم انه زمن الانخراط في نادي السماوة وممارسة لعبتي تنس الطاولة وكرة اليد مع رفعت عبد المنعم ، علي جهادي وشقيقه إحسان ، إسماعيل ، علي عزيز وشقيقه حسين ، عامر نجم الحداد , وعاطف جبار، فاضل العوسي ، انمار عبد الخضر الصائغ, كريم عبد الزهرة ، طارق أبو الجبدة , رحيم هادي شنبارة أبو العوف والمدرب الأستاذ مسلم عباس مظلوم (أبو خلدون ) مدربا لتنس الطاولة والاستاذ علي الخطيب مدربا لكرة اليد وآخرين ، نعم ، لقد تأهل بها المنتخب الوطني العراقي إلى نهائيات كأس العالم في المكسيك ، حيث كل شيء تعطل سوى حب المنتخب والعراق رغم قساوته المفرطة ، هذا التأهل سوّق لنا ملابس تلك الدولة ، أهمها القبعة المكسيكية الشهيرة التي أهداها لي ذات يوم المرحوم عباس بيده ، هذه القبعة كانت الوحيدة في السماوة ، وفي إحدى شطحات تلك الأيام قررت أن ارتدي القبعة المصنوعة من الخوص والتي تتسم بكبر حجمها ,عليها ألوان براقة بمخروط فارع الطول يشبه علامات المرور مع زركشات وخرز حوّطت اطرافها ، لحقها قميص أزرق اللون بأزرار مفتوحة مع عقده من الأسفل على طريقة مغنيي الهيب هوب ثم بعض من قلادات وضعتها على رقبتي وأساور يدوية بألوان مختلفة وبنطلون من الكابوي رفعته من تحت مع حذاء رياضي بلون أبيض ، أضفت إلى هذه التفاصيل غليوناً طويلاً مخصص للتدخين ، وهكذا قررت أن أخرج في ذلك اليوم لأقف في تقاطع السينما ممارسا طقسا من طقوس الصعلكة ".
عودة وصفي في زفاف شقيقه الأكبر محمد:
يقول ماجد: " بعد أن وصل المهنئون في بيت جارنا جاء الآن وقت مد سفرة العشاء وتوزيع المهام من أجل الاستعداد لتقديم الطعام ، عبرت السلم معلنا التهيؤ لاستقبال صحون الحلاوة مني ، فتحت الباب ببطء حتى لا افسد الصحون التي ملأت مساحة الغرفة وحتى مدخلها ، تركت الباب على نصف فتحة وخلفي نساء البيت ، مددت يدي ضاغطا زر الانارة وعيني على الارض ، ملأ الضوء المكان رميت بنظري على الصحون تسمرت بمكاني متفاجئاً من وجود اقدام عند نهاية الباب بالقرب مني ، رفعت رأسي متفحصا جسد الواقف الذي دخل خلسة الى غرفتي المحكومة الغلق ، وقبل ان انطق ، هو همس بأذني ، (ااشششش لا تخلي النسوان يدخلن ) ، ومن دون مقدمات أو تعقيبات فائضة عن الحاجة خاطبت النساء بالتوقف خارج الغرفة ومنعتهن من الدخول بحجة الحفاظ على الصحون والحلاوة ، وانا كنت أريد الحفاظ على حلاوة من كان في الغرفة ، نعم كانت قدماه حلاوة ، جسده حلاوة ، وقوفه حلاوة ، دخوله السينمائي ، الغرائبي حلاوة ، حيث لم يعلم أحد بأنه في البيت مطلقا ، كان مطاردا من قبل الامن والبعث ، إلا أنه لم يتأخر عن الحضور إلى حفل زفاف شقيقه الذي يكبره, اختراقه هذا للبيت دون علم احد حلاوة . خداه ، عيناه ، طوله ، أناقته ، كله كان حلاوة ، نعم انه شقيقي وصفي الذي كان خلف الباب .. فرحتي بتواجده بيوم زواج محمد كانت قد أعطتني همة بأن اخرج كل الصّحون من الغرفة كي يبقى على رسله في الغرفة .. وبما انه وصفي لم استغرب هذا الدخول المفاجئ فقد كان على قدر كاف من الذكاء من أجل انهاء اية مهمة ، نعم هذا وصفي مؤرق رجال الأمن والبعث ، حضنته ، قبلته ، شممته قلت له كيف ، ماذا ، قال لي : وهل تريدني أن لا أحظر حفل زفاف محمد ...!!! بعد وليمة العشاء ومغادرة بعض الضيوف ، نزل وصفي مصافحا الجميع ومن ضمنهم الأصدقاء الذين تصرفوا ، - وبأمر من الخال جبار شلاكة - كأنهم منذ الظهيرة لم يروه! ، وهو الغائب عنهم من مدة طويلة ، من بين الحضور كان احد ما ، الذي علم بهذا الحضور، مسجلا في دفتر الموت المؤجل ، أن الصيد قد وقع في الشبك ، العصفور دخل القفص ، الصنارة توشك أن تلتقط فم السمكة العائدة إلى مائها ، تهيؤوا للصيد ، وصفي دخل البيت أخيرا .. بعد إتمام مراسم الزفاف ، لم ينم وصفي ، قال لي : رافقني إلى كراج سيارات بغداد ، كان هذا عند الساعة الرابعة فجرا ، قلت له : لم نشبع منك يا أخي ، تأخر قليلا ، قال بهدوء وابتسامة تخبئ خلفها حدسا غريبا :لا ، فعناصر الأمن سيأتون عند الساعة الخامسة ليلقوا القبض عليّ ، دعني أذهب ، رافقته حيث أراد ، ودّعتُه... وبالفعل ما إن جاء فجر ذلك اليوم ، و إذا برجال الأمن يملؤون الشارع طارقين الباب بعنف ( وين وصفي !؟) ".
وصفي ذهب إلى بغداد ثمّة أمر ينتظره هناك، هو، وصل إلى العاصمة فرحا بزواج أخيه محمد، أبلغ الرفاق بزواج أخيه محمد و كان يروم إخبار أخيه الأكبر و هو كاظم و اسمه الحركي (يوسف عرب)، إلاّ أنّ الرفاق أبلغوه بأنّ كاظما قد استشهد بيوم زفاف أخيه محمّد (يا لها من مفارقة)، و بخدّين باكيين مبتسمين كبت وصفي حزنه و فرحته داخل صندوق القلب، مكمّلا مسيرته خلف كاظم في شمال العراق، قال سأبقى على خطّه، لقد حقّق وصفي أمنيته و التحق به شهيدا هو الآخر.
عودة في طريق مجهول نحو السماوة :
يقول ماجد بعد أن عيّن قائدا لرفاقه للعودة للسماوة بعد انكسار الجيش: " لا أخفيكم سرّا إنّها لعبة منّي حين صرّحتُ بأنّي أعرفُ الطّريق، و الحقيقة أنا لا أعرف من هذه الأرض إلاّ أنّها أرض عراقيّة تحوّلت إلى معسكر من أجل حماية محافظة الكويت الجديدة فقط، لكنّي قلتُ ذلك من أجل بثّ روح الإطمئنان بين زملائي... قرّرنا المسير باتّجاه اللاّ اتّجاه، اللاّ أين، اللاّ أدري"
ثمّ يقول: " الهواء العاصف بكفّه الضاربة القادمة من الشّرق صفعنا بحس الاتجاه الذي يريد دافعا ظهورنا برفسة حيث اللا ندري، ركبنا الموجة الهوائيّة مشيا لكن هذه المرّة من دون جهد عضلي لأنّ محرّكه الكوني بطاقته الدافعة الرافسة منحنا السرعة الفائقة التي أحالت الخمسة رجال إلى ثلاثة و أنا من ضمنهم، بعد ساعات من هذا الاندفاع الذي أعقبه مطرٌ غزير، غسل الرمل ملابسنا مسكّنا الهواء لأجد أنّني مع اثنين، لقد اختفى أربعة، صلاح، صالح، عماد و جواد". و بعد الوصول لذلك المكان المجهول (الشقّ) يقول ماجد: " لفظنا أنفاس الإستقرار النسبي مانحين السماء نظرات الترقّب و السّؤال الموجّه لها، ما هذا؟ ما الذي يجري؟ من نحن..؟ و إلى أين..؟ كيف هذا..؟ إلى متى..؟ ألمُ الأقدام الذي جاء بعد الجلوس قطع الأسئلة، لو تكن الأقدام أقدامنا لقد تمّ استهلاكنا بثلاثة أيّام من المشي من سجن قسري تحت تصلّب جلد البساطيل من جرّاء الرّطوبة و التصاق الطّين بها..."
مفاجأة الطريق المرعبة:
يقول ماجد: "ساعتان من المشي المتواصل نحو اللا نحو مع تسارع الخطوات توقفت فجأة ليصطدم زملائي أحدهم بالآخر، وقوفي لم يأت قصدا، فها أنا أمام ما يمنع إكمال المسير، هذا التوقف أرسل سعيرا إلى قدميّ التين تحوّلتا إلى حوض كبير استقبل انخراط قلبي الذي غادر قفصه الصّدري عاكسا وميضا أبيض في عينيّ مُشكّلا بداية صداع أسقطني في حوض احتمالات مرّت برأسي بلحظات خاطفة إنّها فرقة الإعدام، جيش أمريكي، لا سعودي، كمين، شرطة حدود لا لا ما هذا..؟ قلتُ ذلك كلّه في نفسي، لكنّه اختفى بعد أن مددت يدي نحو مانع المسير لأعرف أنّه كان عبارة عن فوهة مدفع منخفض تركه جنوده هاربين اصطدمت بصدري".
و بعدها يقصّ علينا ماجد كلّ ما عاناه و رفاقه للوصول و كيف وجد قدماه متورذمتان و متقرّحتان و الألم الشديد بعد نزعه البسطال و الجورب و كيف تابع المسير بذلك الألم الشديد. لكن و بعد الوصول للجسر و اجتيازه و مواصلة الطريق دعاه رفيقه ماجد الخزعلي لبيته للاستراحة و المبيت بعد أن التقاه فجأة، إلاّ أنّ رغبته بالمواصلة و الوصول للسماوة رفقة طارق جعلته يرفض الدعوة. و في هذا الصدد يقول: " إصراري كان يشدّه حنيني إلى أشقّائي المغيبين كاظم (يوسف عرب) و حيدر (وصفي) أريد أن أصل حتى أغمس بالوحل رأس كلّ بعثيّ ساهم في صناعة تقرّحات ألمي و حسرتي عليهم، أريد السماوة الآن حتى أسحق بهذا البسطال النتن رؤوسهم النّتنة". و أخيرا الوصول للبيت و احتضان الأم التي كانت تصلي و تدعو لأبنائها بالسلامة.
أمّ قاسم ، أمّ الشهداء:
أمّ تحمل قلبا كبيرا، شجاعة، امرأة حديديّة، أمّ الأبطال الشجعان، أنجبت رجالا عظماء، أمّ الشّهداء. لم تعلم باستشهاد كاظم إلاّ بعد سنين طويلة، علمت حينها أنّها زفّت إلى السّماء شهيدين أحدهما التحق بالرفيق الأعلى بليلة زفاف ابنها محمد و الثاني أُعدم مرّتين. و استشهد ابنها المقدّم علي وروار سيرا على خطى و درب أخواه كاظم و وصفي دفاعا عن وطنه في أبي غريب على يد داعش في 28/02/2016. أمّ تحملُ جبينا مُشعّا و بيتا مُنارا بالأرواح الطاهرة الزّكيّة.
كاظم (يوسف عرب):
يقول ماجد: " لم تكن مراهقته عادية مطلقا ، مراهقة عُبئت بالسياسة مبكرا ، لكنّ هذا لم يؤثر على أناقته و شياكته وابتسامته التي اتسمت بالإفراط ، كان كريما بتوزيع الابتسامات على الوجوه لكنه كان شحيحا بها على البعثيين و رجال الأمن ، تلك الابتسامات التي تظهر بياض أسنانه مع لمعة ساحرة من عينيه الزرقاوين المائلة للخضرة كانت توقع كل من شاهدها بحبه وتسجيل الإعجاب بشخصيته ـ معذرة أنا لا أمتدح أخي لأنه أخي ولكني اسرد لكم حقيقته ـ ضحكاته تلك كانت تسحر الجميع وخصوصا النساء إلا أنها كانت مصدر ازعاج مستمر لكل بعثي مكلفٍ بمراقبته ! ولم لا، فهم كانوا يحاربون حتى الابتسامة ، دعوني اذكركم بشيء من ضحكات كاظم ، ذات مرة كان يلاطف أمّنا في البيت كما هي عادته اليومية ، هو أطلق ضحكة عريضة بصوت عال جدا اخترقت الشبابيك والجدران ، فلم يكن أمام أمي إلا أن تفزع إلى باب البيت لكي تتأكد من أنّ (الدربونة) كانت خالية من رجال الأمن والبعث والمخبرين السريين ، ويقينا كاظم استمر بضحكته غير آبه بشيء ، لكنه قلب والدة خائفة على فلذتها ، أسرد لكم الآن وكأن ضحكاته مثل صور معلقة على جدران بيتنا القديم . كان من النشطين في مجال الرياضة والمسرح مرحا بشوشا لا تفارقه الابتسامة جديا في النقاش ، ابتدأ رياضيا يمارس كرة اليد في نادي السماوة الرياضي ومن ثم مسرحيا ، بعد ذلك الدراسة الإعدادية التي عانى منها الكثير من المضايقات واجبر على الذهاب إلى الناصرية لإكمال الدراسة الإعدادية ( السادس) حيث كان يدرس السادس المسائي هناك وينام في سيارة عاطلة نوع ( رف روسي ) كسرت زجاجتها الخلفية وفي الصباح الباكر يذهب مع عمال البناء لكي يقوت نفسه ويوفر الطعام, سنة دراسية كاملة ينام في تلك السيارة المهجورة ، وبعدها الدراسة الجامعية ( الجامعة التكنولوجية في بغداد) حيث حاول النظام إلقاء القبض عليه داخل الحرم الجامعي ولم يتمكنوا من ذلك فهرب من الباب الخلفي للقسم واتجه إلى غرفة عتيقة في بيت كبير بمنطقة الكاظمية حيث يختبئ أكثر المطاردين هناك ، وكان على اتصال بمجموعة من رفاقه ، في مقدمتهم " جمال وناس " جودي" زهير عمران موسى ، و باقر ملك , وخالد عزيز ديبس ومحمد وروار , و ... , كانت هناك جولات عبارة عن " ندوات متحركة " حيث تثار النقاشات حول مختلف المواضيع الثقافية والسياسية . رجال الأمن و جلاوزة البعث كانوا يرصدون تلك التحركات ، وحاولوا التحرش به وبرفاقه أكثر من مرة ، بل وانتقد بعض الرفاق الجبهويين كاظم واعتبروا جولاته هذه مضرّة بمسيرة عملية التحالف القائم مع حزب البعث يومها . مع تصاعد الهجمة البوليسية من قبل أجهزة النظام القمعية في عام 1978 اختفى كاظم عن الأنظار ، لفترة قليلة وجاء إلى السماوة متخفيا وقام بنقل أثاث مقر الحزب والمكتبة والمنشورات والوثائق هو ومجموعة من الرفاق لكي لا يبقي دليلا واحدا على الرفاق وتنظيمات الحزب ، جمعها ، نقلها ، أخفاها ، أنا و وصفي كنا معه في تلك اللحظات الحرجة ، حملنا معه وثائق الحزب ومكتبته إلى البيت كان هذا تحديدا الساعة الثانية عشرة ليلا ، كاظم لمعت في رأسه فكرة لإخفاء تلك الوثائق ، قال هيا لخلع أبواب البيت الخشبية وفتح كبسها ، لم ننتظر خلعنا أبواب البيت و أخفينا الوثائق بين أخشابها و أرجعناها على ما كانت عليه وكأن شيئاً لم يكن , قبل الفجر ودّعنا كاظم . وذهب إلى بغداد ... أتذكر جيدا تلك التفاصيل ، كان السؤال عن كل شيء يدور في رأسي ، ومن كثرة تداخل الأسئلة قلت له قبل أن يغادر : لماذا كل هذا العذاب ، فانا احبك معنا وأن تترك ما آنت عليه ..؟ قال : سيأتي اليوم الذي تعرف فيه لماذا أنا على هذا الطريق ، يا ماجد إنّ المسيحي يمكن أن يصبح مسلما ولكن المسلم لا يمكن أن يتحول مسيحيا ، يا ماجد أريدك أن تكون كذلك ، قالها ، و رحل ... بقي في بغداد ونحن نحصد الأخبار يوما بعد يوم دون أن نراه و المخبر السري و جلاوزة النظام اخذوا مأخذا منا فهم في كل يوم لهم زيارة ميدانية في بيتنا إن لم تكن في كل ساعة في الغداء وفي العشاء لم نذق حتى طعم الأكل ولا النوم , ومرت سنة وعدة أشهر ونحن نتتبع الأخبار عنه , وفي يوم ربيعي كان هناك موعدٌ لي مع وصفي في بغداد , وصفي هو ( حيدر) الأخ الذي يصغر كاظم ويكبرني شاب وسيم لا يتجاوز عمره عند الاستشهاد ثلاثةً وعشرين ربيعاً .., كان لقاءً دوريا بيننا آو إذا كان هنالك طارئ ما أو ورقة سرية أو منشور يريد إيصالهما لشخص ما عندها نلتقي.. كاظم كان قائد المجموعة في قرية (سويله مش) سهل (شهره زور ) من ناحية سيد صادق شمال غرب السليمانية. كاظم العربي الأصل كان قد مزج نفسه معهم بالزيّ الكردي ، كان قافزا على كلّ فارق متحدا مع الإنسان و الجبل و السهل والوادي . كاظم ( يوسف عرب ) ، آراس أكرم ( سامال ) ، محمد علي فرج ( غه مبار ) ، سلام عرب ، ياسين , اتفقوا بالصعود على التل من أجل المراقبة وتأمين المكان لهم خشية هجوم مباغت من قبل قوات صدام مع الطلب من البقية بالمكوث في الجامع والبيوت لإكمال الإجراءات من ثم الصعود فجرا إلى الجبل . «التحرّك المنبعث من عمق الوادي بدأ يقترب أكثر مرتفعا إلى حيث الأعالي المحيطة بالقرية، إلا أن الغموض سيطر على الرؤى والمرأى والتفكير والتمكن من بسط هيمنته على تفكير الخمسة الماكثين على خط الترقب. احذروا من هذا التحرّك ، هذا ما قاله الهابط توا من الجبل لكاظم حيث أجهزة الرصد تمكنت من معرفة أنّ الحركة التي في العمق هي قطعات عسكرية مكونة من الجحوش البعثيين والجيش تريد الانقضاض على القرية ومن فيها ،هو بدوره أرسل تعليمات للجميع , من في القرية والجامع بأن يستعدوا لهجوم قادم . صباح آخر بدأ يشرق كشف كل شيء ، المشاغلة كانت فخاً لإسقاط المتقدمين حتى يكونوا امام مرمى الكلاشنكوف والقاذفات أسلحتهم الوحيدة ، كل الرصاصات كانت تعرف مستقرها في اجساد المتقدمين . أربعة وعشرون ساعة استمرت على هذا الحال ، مناوشات أرهقت الجيش المقابل وألبستهم رداء الحيرة امام هذا الاصرار الغريب الذي شكل حائط صد مكوناً من المرتفعات والاشجار والمنضوين بين الجنبات ... أتت الاوامر بالانسحاب التدريجي والعودة إلى الجبل ليلا ، كاظم ورفاقه الخمسة على مكانهم من أجل صد تقدم الجحوش واعطاء فرصة للرفاق بالانسحاب. وفي الليل سيطر الهدوء على المكان إلا من بعض الإطلاقات التي تمر من هنا وهناك ، هذا المجال مكن الطرف المقابل من التحضر لهجوم شرس مدعوما بالمدفعية و الهاونات و القذائف ، كل هذا كان يجري ليلا ... خلو القرية إلا من هؤلاء الخمسة وقليلا من الأنصار كان محسوبا أيضا ، لكن هذا لم يمنع شهوة القذف الصاروخي على القرية ... " "صواريخ الطائرات المنسحبة كانت سببا لصناعة هدوء رهيب لدى معسكر الثلاثة ، ليقابله هدوءٌ آخر من طرف الجحوش ، مع انسحاب آخر طائرة التي بعثت بصاروخها الأخير المتشظي بجمر لهيب وصل إلى فخذ كاظم الأيسر ليتكئ على سلاحه زحفا إلى آراس المصاب هو الآخر بكتفه الأيسر بمسافة ملمترات عن قلبه الذي ينبض على رفيقهم سلام العرب الذي أصيب بقدمه اليمنى . تكاتف الثلاثة تاركين بقع دمهم تجر خطا خلفهم نحو يمين المرتفع حيث الغطاء الذي رسمه الرفاق من فوق السفح الذي صار بعيدا ، صعب المنال ، الجراح المثخنة أجبرتهم بسلك الطريق البديل من الجانب الأيسر حتى يتمكنوا من إسعاف أنفسهم والوصول إلى الرفاق ... التفاف الحجوش بزي الانصار من الخلف كان متواجها مع مسير الثلاثة ، تربصوا لهم من خلف الاشجار والمرتفعات الصغيرة ، الهدوء والمشي ترافقا جيدا معهم مع سماع اصوات ارتداد الرصاص ، توقف ، قالها الجحش الكبير رشيد صالح (ره شيه ى صالحه ) ، رفع كاظم يده من على فخذه ، آراس اسبل يده من كتفه ، سلام انهى سحب قدمه المتثاقل ، لقد وقعوا في الأسر ...!!!
وصفي (حيدر):
هو الآخر كان مطاردا من قبل رجالات الأمن مذ كان عمره سبعة عشر ربيعا وبالضبط عندما انطلقت التظاهرة التي سميت بتظاهرة الشيخ ( مهدي السماوي) وشدد التحري عنه بعد المنشورات التي التصقت على جدار متوسطة التحرير ومدرسة غرناطة في منطقة الغربي التي تدين النظام على أفعاله ، في العام 1981 ذهب الى بغداد ودخل الجامعة بكلية الإدارة والاقتصاد , وبدأت من جديد نشاطاته الطلابية المعارضة للنظام هو ومجموعة من الطلبة المعارضين. كان وصفي يقلقني كثيرا عندما التقي به ، لا تعرفه ماذا يفعل غامضٌ جدا وحذر رغم انه دقيق في مواعيده , وفي احد اللقاءات بعد سلامي عليه رأيت من بعيد الشهيد عبد الحسين كحوش الذي كان نحيفا و بعقل كبير جدا يقرأ كل الأشياء ، لا يبقى في مكان واحد ولا يكرر العودة إليه إلا بعد مرور أيام , وقعت أنظار وصفي عليه فقال لي سألقاك بعد ساعة انتظرني في المكان الفلاني كان ذلك في منطقة الميدان سوق السراي, وبعد مرور الساعة لم يأت بل أتى مبعوث منه ليقول لي اذهب فهو لا يأتيك اليوم , وبعد ثلاثة أيام هي المدة التي استطيع البقاء بها في بغداد وقبل سفري إلى السماوة ظهر أمامي وصفي طبيعيا من دون تعجب بابتسامة جميلة هادئة لا تستطيع أن تكون عصبيا أمامها, كان سريا غامضا هادئا يكتم الأسرار وببرود أعصاب (راح تسافر ماجد ) قالها دون أن يثير شيئاً . هو كان حلقة الوصل بيننا وبين كاظم حيث كان يلتقي به خارج بغداد , لقد عانى الأمرين بين تنظيمه السري في بغداد الذي قاده إلى حبل المشنقة بعد سنين من النضال والمطاردات في الكلية وفي الأقسام الداخلية مع أصدقائه وفي بيوت الأقارب و الأصدقاء وفي شمال العراق ولقاءاته بكاظم . في بغداد كان وصفي يعد العدّة مع رفاقه لعملية اغتيال الرئيس صدام حسين كان معه عبد الحسين كحوش وآخرون ، مدينة الثورة كانت منطقة تحركهم متخذين من بيت رفيقة لهم مقرا ، كان زوجها يعمل في الخط المائل ، الا أنهم كشفوه ، وقتله الأمن ، وكان قد أعدّ مكانا بديلا في اليرموك وهو بيت ام نصير وناطق الذي فضلته على أبنائها ، ومنحته ما كان قد فقده من أمه التي هجرها مرغما مطاردا. ليلا وفي البيت البديل بمدينة الثورة كانت المرأة التي اسمها (نادية) الشقراء زوجة الرفيق قد قطعت موعدا مع وصفي عند الساعة السابعة صباحا أمام مستشفى اليرموك غدا من أجل التهيؤ للقيام بالهجمة ، حيث سيمّرُ صدام من ساحة التحرير عابرا جسر الجمهورية ليصل إلى القصر الجمهوري ، وقبل التحويلة التي في بداية شارع الزيتون ستتم عملية تفجير العبوة الناسفة على رتل صدام حسين عند مدخل العلاوي. الساعة السادسة والنصف من صباح اليوم التالي ، أبلغ وصفي ام نصير بأنه سيجلب لهم خبز الفطور من الأسواق القريبة ، خرج على الرغم من اعتراضات ام النصير ، إلا انه برر ذلك بالخبز ، خرج موصدا الباب ، هبط الرصيف ، ترك الشارع خلفه ، وقف أمام المخبز متأملا خفّة أيادي العاملين وهي تتحسس حرارة الخبز واضعيها على المنضدة الأمامية أمام طابور الزبائن. وصفي ترك هذا ، ترك المطعم القريب ، تأمل بائع الشاي ، منح شباك تلك الفتاة التي كانت تراقبه كل يوم نظرة خارج التوصيف ، ترك أيضا منطقة الشوارع الأربعة خلفه ليصل إلى بوابة المستشفى عند الساعة السابعة. تباطأت أمامه سيارة تاكسي (سوبر ) وعلى غير العادة مقعدها الأمامي كان مشغولا من امرأة ، دقق وصفي النظر ، ليجد أنّ من فيها نادية ، أقلت السيارة للتمويه ، نادية الشقراء ، بدت بعينين لامعتين ، وتبرج أغوى سائق السيارة ، أشارت له بأن يقترب منها ، بلا مقدمات صعد وصفي السيارة من الباب الخلفي. تهيأ السائق بانطلاق بطيء ، لمح وصفي في مرآة السائق أنّ سيارة لاندكروز تسمرت خلفهم ، تحركت السوبر لبضع خطوات ، وبذات السرعة تقدمت خلفهم السيارة الأخرى مشرعة أبوابها ونزول من فيها , تركوها ركضا باتجاه التاكسي ، ليضع أحدهم مسدسه برأس وصفي . الشقراء ، قالت لهم ، هذا هو اخذوه ، أنزلوه بمقاومة شديدة ، أحدهم صفعه على رأسه ، ليرده بأقوى منها ، نفضهم ، ضربوه ، ضربهم ، ليكمل حديثه ببصقة على وجه الشقراء التي تحولت إلى كائن مختلف ، تمكنوا منه , كبلوه , وضعوه في السيارة الأخرى .
المقدّم علي الوروار:
التحق عليّ بالجيش مرة أخرى نقلوه إلى السليمانية ليتسرب من وحدته إلى حيث الأنصار ، ابلغهم بأنه شقيق يوسف عرب ( كاظم ) لم يصدقوه أظهر صورته وصورة وصفي كانتا مثل تميمة في محفظته تدوران حيث يدور ، صدقوه ، استقبلوه استقبالا يليق بتضحيات شقيقه مقطوع اللسان ، خيروه بأن يهاجر ، يعود ، يبقى ... اختار البقاء معهم مرتديا زيهم حاملا السلاح معهم مكملا طريق شقيقيه... بقي علي يجول العراق متخفيا حتى إحدى مساءات العام 1993 وضع رأسه في حجر أمّه قائلا: " يمه انسيهم ماتوا وانه وكفت على قبر كاظم". علي عاد ليكون ضابطا في الجيش العراقي ، وهاهو كل شيء استقر الآن بحسرة تتكرر على تلك الدماء التي سالت من أجل هذا الذي اسمه عراق. و في الثامن والعشرين من شباط من هذا العام استشهد علي في أبي غريب على يد الدواعش دفاعا عن أرض الوطن.
أيلول:
يتدرج صوت الكاتب ممررا رسالته بين كلام البطل ليضع رسالة مختصرة في المنتصف : " إنّه أيلول السلاح والسلام ، لكنه فرق الحاء والميم ، وكبير هو الفرق بين الحرية والموت بدم فاسد ، صوت الرصاصات في الجبل كانت تعادله سياطهم على ظهر من كان في دائرة الأمن ، أي بلاد هذه ؟ إنّ دائرة أمنها تشكل أخطر من الخطر ذاته على مواطنيها ، فرق المعنى واضح في بلاد التهشيم والسحق ، فرق المعنى يشكل مجالا بين الحياة و اللاّ حياة ، بين الحلم و اللاّ حلم ، فكل رصاصة موجهة إلى صدر بعثي من كاظم كانت تسكب الملح على جرح الأب الذي في الزنزانة الثالثة على بعد من الزنزانة التي احتوت ماجد بكل قذارتها ، رجال الأمن يفرطون بالتأنق والتعطر الدّائمي وهو معادل موضوعي لقذارة صمّموها لتكون مسلخا لجلد من يقول لا ... لا .... لا ... ذاتها كان يطلقها كاظم مع الرصاص ، لا... لا.... كان يقولها وصفي في بغداد ، ... لا ... لا ...لا ، كان يقولها الأب والابن في دائرة الأمن عند صباح الزواج ... "
نعم إنه نهار الخامس والعشرين من أيلول نهاية معركة سويله مش بهذه الموقعة الدموية مع اعتقال الأب والشقيق في دائرة أمن السماوة بعد ليلة زفاف الشقيق الأكبر ، كم من الصفحات يراد لها اختصار هذا الذي لا ينتهي فمازالت الحروف تدون الحروب التي عاشتها الأجساد الغضة ، لم ينته بعدُ تاريخ الانتفاضة ولا الحصار ولا زمن الهجرة التي تقاسمها الأشقاء بعد العام واحد وتسعين دون علم الأم بما جرى للاثنين لكن قلبها كان ينكؤها بوخزات انتهت بدموع لا إرادية ذات نهار ما.
القتل و التعذيب الهمجيّ:
يقول ماجد: "وسط الساحة كان ثمة عمود يحمل الأسلاك الكهربائية ، إلاّ أنّهم أضافوا عمودين آخرين من الخشب إيذانا بصلبهم ... اربطوهم على الأعمدة هذا ما قاله كبيرهم ، بأيادٍ مكبلة وجراح نازفة خطت دمها على الأرض ، قدموهم إلى الأعمدة وتراجع الستة إلى الوراء دون أن يديروا الوجوه الى الثلاثة أمام تقدم رشيد صالحه براز البعث المتكوم على تلّ ، ليتقابل مع الشموس. هرعة ، باكية، بلهفة تريد التقرب من هذا التجمهر الأصفر ، بذهول هبطت ( أمّ ياسين ) الوادي تطارد قطعة هابطة منها تتدحرج أمامها ، حاملةً الجبل معها بقمته يريد التعرف على الذي هناااااك معها ، إنه السؤال الكبير ، سؤال النهاية ، هل أن ابنها من بين هؤلاء الثلاثة المكبلين ؟ ، كان كاظم يتطلع إليها وهي تهبط باتجاههم ، وصلت أمام زحام الرؤوس ، باعدت بينهم ، اخترقتهم متقدمة إلى الأمام ، أزاحت طفلا كان قد دس برأسه من بين أقدام أبيه ، لتجد نفسها وسط الدائرة نفسها. صمت مطبق محيط ترتب على بساط نظرات مستقيمة باتجاه الثلاثة المصلوبين على الأعمدة كسره صوت رشيد صالح بسؤال باتجاههم من منكم سلام عرب ؟؟؟؟ ، العجوز ومن بين الجموع أدارت النظرات نحوها بصرخة مفجوعة أين ولدي ....؟ النظرات عادت إلى الأعمدة تركزت على فم كاظم حين نطق : أنا سلام عرب !، لينطق آراس أيضا : أنا سلام عرب ! ، أنا سلام عرب قالها سلام غاضباً ! ، الثلاثة سلام عرب ، من هنا سلام عرب ، نحن سلام عرب كل من بهذا الزي سلام ! أنا عربي وافتخر ولم أخن العرب و الأكراد , وأنت كردي خائن للأكراد والقضية الكوردية , كانت هذه الجُمل أشبه بسهام تخرج من فم كاظم ، وكلما طأطأ رأسه رفعه بسلام عرب ، هبط الرأس ، ارتفع تجاه صالحه ومن معه : نحن سلام عرب ! ، وبدلا من ان يكون سلام واحداً أصبحوا ثلاثة لتتكوم الأم وسط الجموع غارقة ببركة دموع اختلطت مع الدم السائل منهم باتجاه الأعمدة لكنها راحت تراقب المشهد ، كلكم سلام عرب ... , كان حملا ثقيلا لم تتمكن من تحمله. ارتعد صالحة ، تقدم إليهم ، نتف لحية كاظم - حقير تريد تكون بطل ... - فكّ حبلي ... و نشوف منو البطل ........ - عيونك حلوة ولسانك طويل .... يراد له گصْ ...!!! امسكوه قالها صالحة لقطيع كلابه الذين نبحوا من حول كاظم ، قَدْموا رأسهُ للأمام محدثين مجالا بين ظهره والعمود وتَحَوّلا إلى شبه يد قانة للسماء ... صالحة مركزا في عيني كاظم الخضراوين من دون شعور راح يتحسس جسده باحثا عن حربته من غير ازاحة النظر عن كاظم ، الكلاب زادوا من تقديم الرأس وفتح فمه مخرجين لسانه ، مسكه صالحة من طرف لحيته نتفا ، كان يريد اضعافه .. سحب الحربة ملوحا بها أمام عينه ، انزلها إلى الأسفل ، مسحها بدم جرح فخذه الأيسر النازف منذ ليلة ، رفعها مرة أخرى قاطرة منه ، مسح بها لحيته ، أحالها إلى حمراء ، انزلها أمام فمه المفتوح إلى الأعلى ، وضع حافّتها على طرف من لسانه ، كان يريد إضعافه !! ، وهو لم يستسلم له أبدا ، ارتعد ، انهار ، صرخ ، حتى امتلأت البقعة الدائرة بدم جديد طري ، حار ، نيّئ ، لقد قطع لسانه ..... رجع صالحة ضاحكا بهستيريا إلى الوراء ، أنزل كاظم ووجَّه من الارتفاع العالي ببصقةً على وجهه من دمه الفائض غاسلا صالحة بالمتبقي من لسانه مع خيط لعاب دموي من فمه حيث وجهه .... عينا صالحة أصابهما الغواش من أثر البصاق ، مسح وجهه ليظهر أمامه كاظم مرة أخرى بفم نازف مرتفع إلى الأعلى من نظرة استهزاء لكل المحيط ، كاظم كان يرتفع بقوة الضوء إلى الأعلى وصالحة يتقدم مرة أخرى إليه ، تحسس الحربة مرة أخرى ، تقدم أكثر وهو متلطخ بالدم الحار ، الأصابع الحمراء اللزجة بأظافر قذرة غير مُقَرّضة تقدمت مرة أخرى إلى الوجه النازف ، سأقلع عينيك اللتين فتنتا الكورديات ، منح كاظم وجهه له دون تراجع ، قلع العين الأولى ، كاظم يبتسم ، قلع الثانية ، كاظم يكرر البصاق ، تراجع صالحة موسعا الدائرة المحيطة ، ليرتفع ضوء الثلاثة مُزيدا من مساحة الدائرة الكلبية التي وجهت الفوهات إلى صدورهم معلنة نهايتهم مرتفعين على مدرج الحرية إلى الضوء العلوي.
تسعة وعشرون يوما قضوها بالتعذيب المبرمج (عبد الرزاق وكريم قد اعتقلا أيضا مع الرفيقة وصال شلال بعد أن كشفتهم الشقراء )، أجسادهم صارت حقل تجارب لأساليب التعذيب المستوردة ، موزعين على الغرف تحت السياط و أسلاك الكهرباء غارقين بتعرق الأجساد التي تيبست عليها الملابس ، استمرار هذا لم يجد نفعا لم ينطق الخمسة بأي اعتراف ، كسر العطش كان يأتي من دم لسنٍ مكسور من أثر ضربة على الفم ، الريق الناشف يستمد بلله من الدم ، شعيرات الأنف تحجرت بذات الدم من أثر الركلات ، لم يفكر احد ما بقص أظافره لأنها قُلعت من أول ليلة مخلفة تورم أصابع غير قادرة على فعل حك فروة الرأس ، تسعة وعشرون يوما بدأت عند اليوم الثاني من آذار عام 1984 وصولا إلى آخر هذا الشهر ، لقد جهزوا الأجساد بدقة عالية خلال هذا الشهر ، كل شيء كان افتراضياً عندهم ، حتى الأحلام! ارتعد ضابط الأمن بعد صفعه بيده التي تلطخت بدم فمه ، صارخا اعدموه غدا صباحا ، فهو يوم ميلادهم (31 من آذار) . إلى الممر المؤدي إلى المقصلة سحبوه صباح اليوم التالي، استجمع قواه ، انتفض ، دفعهم إلى الجدران ، ركلهم ركلوه ، ضربهم ضربوه ، أسقطهم أرضا أسقطوه , صرخ السجانون , لحق بهم آخرون ... من عمق الممر المظلم جاء أحدهم راكضا مفردا عطفي بدلته متنكبا سلاحه قفزا عليه بضربة من أخمس البندقية على رأسه ، تلقفه الجدار ، مدا يده على مقبض باب لغرفة كانت تشهد تعذيب أحد آخر ، هوى أرضا لم يبق إلا نفسه المتقطع ، لم يصمد النفس أمام هذا كله ، فاضت روحه ، حملوه ، أكملوا حمله إلى المقصلة ، أغلقوا الباب رفعوه على الحبل ، نفذوا القتل مرة أخرى ، لتواجه عيناه السقف وقدماه متوازيتان مع رؤوس جلاديه. و هكذا أُعدم وصفي مرّتين...
في الأخير:
الخامس و العشرون من أيلول جعلتني أذرف دموعا كثيرة، عشتُ فيها الأحداث و عاد بي الأخ ماجد للوراء للتأريخ منذ الثمانينات.. إنّها تراجيديا شهداء (آل الوروار). سرد جعلني أتابع سيناريو فيلم وثائقي و كأنّي جالسة أمامه أستمع له و أصغي لكلّ كلمة بأذني و ليس قراءة. سرد بسيمفونية حزينة تحمل في طيّاتها آلاما و جروحا لا تندمل و لا تُنسى أبدا. موسيقى كئيبة جدّا لكنّها تُمجّد الأرواح الطاهرة.. إنّها أرواح شهداء آل الوروار الذين دافعوا بالنفس و النفيس لإعلاء كلمة الحقّ و دماؤهم زكيّة تُخلّدُ ذكراهم، و أسماؤهم صنعت بطولتهم في التأريخ الذي سيظلّ يذكرهم للأجيال القادمة. المجد و الخلود للشهداء. تقديري للأخ ماجد الوروار الذي سرد لنا حقائق تاريخيّة و قاسمنا أوجاع قلبه القويّ. و تقديري للصديق الروائي و الشاعر عامر موسى الشيخ الذي دوّن لنا السّرد بتقنية أدبية راقية و رائعة و أخذنا معهما لكلّ الأحداث.
|