يجد الصراع الإثني الطائفي بين المكونات الإثنية الدينية المتنافسة جذوره في ضعف التماسك أو انعدامه بين الأركان الأساسية التي تُدعم علاقة الدولة العراقية بمجتمعها، وتتمثل هذه الركائز بتوزيع النفوذ والتأثير بين الدولة والدين والثقافة (وتسمي في بعض الحالات بالأعراف) للدولة العراقية التي أسست في بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي، وأن التوافق الأكثـر بين هذه الأركان سيفضي إلى بيئة سياسية واجتماعية سلمية اكثـر، ومن أجل التصدي للتوتر المتزايد بين الأغلبية والأقليات العراقية يجب علينا أن نبدأ بإعادة توزيع القوة بين هذه الأركان الثلاثة. فبعد عقود من الدكتاتورية يجب على الدولة العراقية استعادة نفوذها الإيجابي الذي يعود بالنفع على مواطنيها.
وفي هذه الاجزاء الاربعة سأؤكد أن الافتقار إلى الانسجام المجتمعي بين الأركان الأساسية للمجتمع العراقي يمثل العامل الرئيس في عدم الاستقرار؛ ومن اجل معالجة هذه المشكلة فإنه من الضروري تحديد القضايا من خلال زيادة التعاون بين الدولة والمواطنين في البرامج الوطنية والدينية والاجتماعية المدعومة من قبل الدولة، وفي نهاية المطاف فإن هذه البرامج الوطنية من الممكن أن تؤدي إلى مزيد من الاندماج بين الأركان الثلاثة، وسيفضي كذلك إلى وجود علاقة إيجابية مبنية على احترام التعددية الثقافية والدينية والسياسية والتسامح. إن التسامح في العراق بين الطوائف أو الجماعات المختلفة ضعيف؛ وبالتالي فإن وتيرة تطور الجماعة ضمن المجتمع بطيء ولا يسير بخطى مناسبة لحاجتها، فمنذ عام 2003 والدولة العراقية عاجزة عن تقديم أجوبة على الكثير من احتياجات المواطنين، وهذا يؤدي إلى هشاشة الهوية الوطنية، التي كانت ضعيفة بالأساس بفعل سياسات النظام صدام السابق، وكذلك ظهور الهويات الأخرى على حساب التنمية الوطنية والتماسك والاستقرار. إن تطور الدولة لم يكُ أمراً سهلاً بالمرة، وأنها لم تتطلع لأن تكون على الطريق الصحيح طالما استندت السلطة الشرعية السياسية والنظام إلى الأسس الإثنية العرقية (او ما يُعرف بالمحاصصة) ولم تكن مؤسسة وطنية، وحاليا فالدولة هي أضعف مكون مؤسسي في المجتمع العراقي بالمقارنة مع المؤسسات الأخرى الدينية والثقافية (مثل العشائرية)؛ وهذه تعطي حافزاً بأن يجعل أصحاب المصلحة العراقيون المؤسسات الدينية والثقافية أن تعمل مع الدولة من أجل تعزيز قوة جهاز الدولة وبالتالي سلامة وتطور المجتمع.
ركن الدولة: من أجل أن تعمل الدولة بفاعلية وكفاءة لابدَّ من تحديد دور المواطنين ومسؤوليتهم والركائز المؤسسات الثلاث. وحينما تحاول الدولة اتخاذ إجراء فإنه من الضروري أن تأخذ بعينِ الحسبان قوة ومصادر نفوذ تلك الركائز ضمن ذلك البلد، وفي الوقت الذي يُنظَرُ في البلدان الغربية إلى الدولة بتوفير احتياجاهم إلّا أن بعض البلدان تلقي الأركان الأخرى (الدين والثقافة) على سلطة الدولة، التي طالما يتحوّل فيها القانون الديني إلى قانون وطني أو محلي، ومن المهم ايضآً تحديد أصحاب النفوذ الذين يمتلكون السلطة والقوة في المجتمع؛ لأنه من دون القوة الموضوعية لا تتمكن الدولة من القدرة على فرض سياساتها. إذا كان من الواضح ضمن مجتمع ما أن الدين أو الثقافة هما القوتان الرئيستان الدافعتان للسلوك، فحينها ستكونان غير كافيتين وغير فعاليتين في محاولة تنفيذ التغيرات وفرضها ضمن قوانين الدولة ولوائحها فقط، ولاسيما إذا كانت هذه اللوائح لا تتماشىيان مع القيم الثقافية أو الدينية لذلك المجتمع، الّا أن الدولة تستطيع إلى تركيز اهتمامها على التأثير بالمؤسسات الدينية أو الثقافية من أجل تنفيذ وقبول التغيّر المقترح من قبل الدولة بدلاً من محاولتها بأن تكون المؤسسة الوحيدة في المجتمع التي تدعو إلى التغيير. إن الدولة تقدم ما هو أساس وأكثر أهمية لسير العمل الداخلي للمجتمع، وهي تحدد المبادئ التوجيهية لمواطنيها ومؤسساها وتضع خارطة الطريق لتوضيح السلوك القانوني المقبول للموطن، وقوانين الدولة هي آليات لتحديد سياسة الدولة ومن ثم الوسائل التي يتم فيها تنفيذ تلك السياسة، وتعتمد شرعية الدولة على ما إذا كانت السلطة في الدولة متجذرة في النظام القانوني الرسمي أم في الأنظمة التقليدية ما قبل الحداثة التي تعتمد على العلاقات الشخصية والمعتقدات الناشئة من التقاليد (كما هو الحال في الأنظمة القبلية)، ولا بدَّ للدولة من أن تعكس هذه المثُل والمعتقدات لمواطنيها، ويجب أن تميل إلى تحقيق رفاهيتهم. لا يمكن التقليل من أهمية الدولة في تعزيز الانسجام المجتمعي، فالانسجام يتحقق فقط في حال كانت تشريعات الدولة وسياساتها تتصل بتلبية احتياجات المواطنين وتطلعاتهم، وبخلافه فإن المواطنين سيشعرون بالاغتراب والعزلة وسيكونون أقل رغبة في الالتزام ، فعلى سبيل المثال أن العراق إبّان حكم صدام حسين كانت الأغلبية العظمى من قوانينه ولوائحه تتصل بسيطرته وقواعد الدولة البوليسية، ومن ثم فإن المواطنين لا يرون تعلّق تلك القوانين واللوائح باحتياجاتهم اليومية وتطلعاتهم الحياتية، وعليه ترى القليل من المشاركة من جانب الجمهور في تطوّر المجتمع العراقي.
الدين والتنوع العراقي: بغض النظر عما إذا كان المجتمع يُعدُّ نفسه دينياً أم لا، فإن دور مؤسساته الدينية وتأثيراته الأخلاقية عادة ما يكون مهمّاً؛ نظراً لأن المجتمعات ككل تسعى إلى الامتثال إلى مدارس دينية أو أخلاقية معينة، ولا ينبغي التقليل من أهمية التزام المجتمعات أو أفرادها بمدارس فكرية أو دينية معينة كون تلك التصورات تصبح مواد للإيمان ومحوراً رئيساً في تعريف الهوية المحلية او الوطنية أو الإقليمية. وعلى الرغم من أن الدين -بوصفه عنصراً أساساً وركناً محورياً في المجتمعات كافة- يمكن أن يؤدي دوراً محورياً في تعزيز الانسجام الاجتماعي إلَّا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلّا إذا عملت المؤسسات الدينية والفتاوى والسياسات على تلبية الاحتياجات الفردية والجماعية لأتباعها وتطلعاتهم.
الثقافة بوصفها الركن الثالث: إن السلوك الثقافي (ويسمى بعض المرات بالعرفي) هو الركيزة الأساسية الثالثة للانسجام الاجتماعي، الذين يتقاسمون الثقافة يعملون أنها تستحوذ على الشبكة الأقرب من النفوذ كالأسرة والأصدقاء والمجتمع ككل. إن المجتمع المتسامح يسمح لمعتقدات أعضائه الثقافية بالتأثير على أفعالهم أو مشاعرهم بطريقة إيجابية ومن ثم يتم إثراؤه بالتنوع، ويمكن أن تكون الثقافة العنصر الذي يربط بالسلوكيات والمعتقدات وطريقة الحياة والافتراضات الأساسية لأفراد المجتمع، وهي توفر نقطة مرجعية تجلب العناصر الأساسية وغير المادية من سمات المجتمع مثل الأعراف والأفكار والسلوك الاجتماعي، والمواطنون عموماً ضمن مجتمع ما يفتخرون بالانتماء إلى ثقافة معينة.
|