" نستاهل وحيل بينه"!! |
قبل بضعة سنوات كنت في مؤتمر لكوكبة من العلماء العراقيين المتميزين في ميادين المعارف والعلوم , وبين جلساته , إقترب مني عالم عراقي مشهور وذائع الصيت في الكيمياء الحياتية , وأخذني جانبا وهو يقول : " أكتب أننا نستأهل الذي جرى علينا , لأننا علمنا الدنيا وفتحنا عيونها على كل شيئ" , وأضاف ألا تَصْدُقني القول " نستاهل وحيل بينه"؟!! وتطور الحديث بيننا , ورأي عالمنا الجليل أن العراقيين قد علّموا الدنيا المنطلقات المعرفية الكفيلة بالإمساك بسكة التقدم والرقاء , فاللبنات الأساسية للحياة المعاصرة إنطلقت من بلاد الرافدين , شئنا أم أبينا , أنكرنا أم إعترفنا , فتلك حقيقة ما يجري في مسيرة البشرية منذ ما لا ندري من ملايين السنين. ومما حضرني في ذلك اللقاء هذه الأبيات: " أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافيةً هجاني"!! ويبدو أن الرؤية ربما تكون صحيحة ولكن من منظار آخر , فالذي جنى على العراق والعراقيين , حقل " بابا كركر" الذي فتح عيون الدنيا على النفط العراقي السهل التدفق والمنال , وبسببه رُسمت السياسات وتهندست الأوطان , لتحقيق هدف الإستحواذ على النفط , الذي أبتلينا به شر بلاء , لغياب الحكمة السياسية والمسؤولية الوطنية والقانونية , التي تضمن التصرف الآمن بثرواته والإستثمار فيه وبعائداته , فتم إقامة مؤسسات للنهب والسلب وسيادة الفساد , ليتحقق الأخذ المريح والبخس من قبل إمبراطوريات الشركات النفطية. إن المعرفة لا تُحتكر والعقل يبتكر ويلد الجديد , والعيوب لا يمكن وضعها على أكتاف الآخرين الذين يعتقدون بمصالحهم ويسعون لتحقيق مديات ربحية عالية وهي مقياس نجاحاتهم وتفوقهم وتقدمهم , فلديهم قدرات الإستثمار والتنامي. لكن العلة المُحكمة تكمن في الذين يتجاهلون مصالحهم ويعتقلون بصائرهم بالأضاليل والبهتان , وينغمسون في مستنقعات الخوالي والباليات , ويمعنون بنكران حاضرهم وحاجات مجتمعاتهم , وينكرون أوطانهم التي عليها أن تكون بهم لا أن تذبل وتموت بأفعالهم. نعم علمنا الدنيا الكتابة والقانون والإعتقاد والعلوم , فهل تساءلنا ماذا فعلنا بما نعرف , وماذا تعلمنا من الدنيا التي إنطلقت من مرتكزات ما تعلمته منا؟ قلت لعالمنا الجليل: أن الباليات تُبلينا , ولن نكون ما دام منطقنا يعجّ بمفردات الذي مضى وما إنقضى , فما قيمة ماضينا بالقياس لحاضرنا , إن الإعتداد بالماضي لا يعني التباكي عليه , وإنما الإرتقاء به وإليه , والتعلم منه وليس التمحن فيه , فهل يمكننا أن نصنع مقاما يتناسب وماضينا في مسيرة الحضارة الإنسانية؟ إن الحياة جوهرها التواصل والتكاتف والتكافل, ونحن نتقاطع ولا نعرف مهارات التفاعل والإعتصام بحبل نكون؟!! فأنى نكون والتدحرج إلى الوراء ديدننا المجنون؟!! |