هواجس ما بعد داعش |
مع اقتراب انحسار التنظيم الإرهابي الداعشي من العراق وأفول أسطورته وزوال سطوتِه، بدأ الكثيرون بوضع علامات استفهام حول شكل البلاد ووضعها السياسيّ المرتقب، من خلال وضع سيناريوهات عديدة. في بعض هذه الأخيرة، دلالات وإشارات وتلميحات على قراءة الأحداث من الواقع السياسيّ الراهن والخوف من فرض واقع الحال على المناطق المحرّرة من أطرافٍ في النزاع على طبيعة الأرض ونوع الإنسان. وفي أخرى تصوّرات ضامرة يشوبُها الكثير من التشاؤم والسوداوية، وقد لا تبعث على الارتياح، لاسيّما بعد نجاح الكتلة المستقوية مجتمعيًا بشرعنة قانون الحشد الشعبي الذي خلق هواجس لا تخلو من نبرة طائفية. فيما يرى آخرون أنّ مسألة فرض واقع الحال، فيه استقواء طائفي وإتني قد يعزّز من هوّة هذه الآفة ومن اتخاذها مستقبلاً نهجًا استراتيجيًا ثابتًا في كلّ خطوة وبادرة وسياسة. بالمقابل، يتوسم فريقٌ مغاير غيرُهم، خيرًا بمفاجآت إيجابية تقف في قافلة الانتظار. وهذه الأخيرة، بالرغم من قلّتها، تعطي أملاً بصحوة وطنية خفية تدعو لطيّ أخطاء الماضي واستقبال صفحة جديدة تعتمد على الشعب والشارع وهمومه. ومثل هذا الأمل على بهاتة أضوائه لغاية الساعة، سيبقى بريق الرجاء بإعادة توظيف التوليفة الدولية الناهضة والساعية إلى محاولة بناء اللحمة الوطنية، وإعادة إعمار ما دمّرته الحملة الدولية على داعش وما خلّفه هذا الأخير وأشباهُه من الداخل من الذين لا يقلّون ضررًا وجرمًا عنه، في الفكر الرجعيّ وفي الشعار وفي الفعل العنفيّ الذي فتك بالمجتمع وأهله وأرضه وبنيانه. وفي اعتقادي، هذا التوجه الأخير لهذا السيناريو الضعيف المشوب بشكوك محتملة، قد تُتاح له فرصة جيدة قابلة للبروز والتنامي على غيره. ويكفي ظهور تباشير هنا وهناك، وعلامات واضحة أو أضواء لعلامات تبشرُ بصعود صحوة وطنية إيجابية تدعو لبناء دولة مؤسساتية قوية تحترم الإنسان العراقي وتضمن حقَه في العيش الكريم على مبدأ المساواة والعدل. فالأحداث والفعاليات المختلفة، دوليًا ووطنيًا ومنظماتيًا وشارعًا، تتحدث عن مداولات ونقاشات وحوارات من هذا القبيل تجري في أروقة السياسة وما بين السياسيين، إنْ سراًّ أو في العلن. وما خطوة التحالف الوطنيّ وجهودُه الأخيرة لرتق الصدع مع الشركاء المشكّكين في النيات، إلاّ ضمن سياق هذا الأمل المعقود والمعقول. فالنعرات الاستفزازية والمثيرة التي بدرت وماتزال من أطراف في الكتلة الأكبر، بقصد أو بدونه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، حمل الشعارات والأعلام الطائفية في الحرب ضدّ داعش في المدن المعروفة في وطنيتها، كلها إشارات على التشكيك في النيات المعقودة على مشروع التسوية وشرعنة الحشد الشعبيّ وما في بواطنهما. كما يمكن إضافة مسببات أخرى بعيدة عن الطابع الوطني العراقي الخالص، وهذه تدخل أيضًا، ضمن هذا التشكيك ذاته، بالإبقاء على شعارات شعائرية خاصة في الشوارع والأبنية ودوائر الدولة، بعد غزوها جميعًا من دون رقيب ولا حسيب ولا مراعاة لمشاعر الغير المختلف. هذا إضافة إلى تصريحات استفزازية من جانب مسؤولين ونواب، ومعظمها تصبُّ في تهديدها بحسم الصراع بالذهاب إلى استحقاق الكتلة الأكبر. على أنَّ التشكيك الوارد بمشروع التسوية الذي تقدّم به التحالف الشيعيّ، باعتباره الكتلة الأكبر، قد يحمل في طياته احتمالين قابلين للتطبيق أو المواجهة: أولُهما الخوف والحيطة من محاولة إعادته للمشروع الطائفي الفاشل ونظام المحاصصة المرفوض من الجميع مجتمعيًا وإعلاميًا ودوليًا. وهذا ما يُستشفُ في الكثير من بنوده وفي طريقة طرحه وأدواته وتبويبه. وإن صحّت مثل هذه التحوّطات والمخاوف، فتلك ثغرة فاسدة وسلبية في نية القائمين عليه، تخطيطًا وتنفيذًا وهدفًا. فذلك يعني من جملة ما يعنيه، بقاء البلاد أسيرة بيد الجهة والدولة التي ترعى الفصائل المسلحة المنضوية في لواء التنظيم العسكري الجديد الذي اتخذ تسمية الحشد الشعبي، ليكون قوّة موازية للمنظومة العسكرية الرسمية الوطنية في البلاد. وهذا من شأنه خلخلة النظام المجتمعي لما فيه من استقواء واضح بجهة إقليمية راعية تسعى لإبقاء البلاد رهنَ سياستها الخارجية في الانتماء والتوجه والقرار. وفي الثاني، يمكن لهذا المشروع في حالة اصطفافه مع الشعب ومع الشارع المتذمّر الهائج منذ أكثر من عام ضدّ سلوك رجال الدولة من المترعين الغائصين بالفساد، يمكن له أن ينال رضا الشعب، فقط في حالة إيثاره مصلحة الوطن العليا على غيرها من المصالح الفئوية والدينية والطائفية والشخصية الضيقة التي يُتهم بها ساسةٌ منضوون في صفوف هذا التحالف ذاته. وهذا إن صحّت التوقعات، فإنّ نتائجَه مرتبطة بمدى حسن النية لدى ساسة المكوّن الشيعي وقياداته وفي استقلاليتهم للقرار الوطنيّ والمجتمعي العراقي الصرف. ففي حالة إثبات الرؤية الوطنية في تطبيقه انتماءً وتوجهًا وإجراءً، فذلك قد يغيّر من السلوك النمطيّ الطائفي الذي طبع تشكيلة كتلته وجلب عليها النقمة وشتى أنواع النقد والاتهام باصطفافها المعروف لجانب الجهة التي ترعاه وبها يستقوي في سياسته وطروحاته. على جانبٍ إيجابيّ آخر من أجل حلحلة حالة النفور والريبة والغيرة، تبدو في الأفق بوادر مغايرة صادرة عن بعض الساسة السنّة المعترفين بالفشل في سياستهم ومنهجهم منذ الغزو الأمريكي للبلاد، عبر تصريحات أخيرة لا تخلو من المصداقية والواقعية، بالرغم من فقدان ميزان الثقة بين الحكومة ورجالها مع الشعب الحائر. ومن جملة ما بدر من نفر من بعض هؤلاء، دعوتُهم إلى ضرورة مراجعة الذات والمنهج والأدوات التي تحمي الوطن والمواطن من التلاعب بمصائرهم، بعيدًا عن إملاءات دول الجوار وغيرها من المتربصين بمصير الوطن وأهلِه. وقد ذهب البعض في تعويلهم للاهتمام أكثر بالشارع المجتمعي الغاضب وبالعودة إليه في نهاية المطاف، بسبب ما أصابه من النكبات والمآسي التي تعرّضت لها مختلف شرائح المجتمع. ومثل هذا التوجه الفكري والوطنيّ المعقول، فيما لو اقترن بحسن النية وصلاح الإرادة، سيعني الكثير لمَن يتابع عن كثب مسار العملية السياسية ويحاول إعادة قراءة المسار السياسيّ المضطرب. إنّ مجرّد بروز مثل هذا الشعور بالفشل والخطأ من جانب هؤلاء الساسة، دليلٌ قبل أي شيء على توجس الأطراف السياسية من تصاعد نقمة الشارع الهائج وعدم رضا هذا الأخير ممّا يجري من أحداث وتراجع في كلّ شيء. بل هو إقرارٌ من أطراف شريكة في العملية السياسية بالسير بعكس التيار الذي يتوخاه الشارع العراقي المناهض في الاستجابة لطموحاته وحقوقه. ناهيك عن كونه إشارة همزْ وغمزْ بضرورة تنحّي الفاشلين ومحاسبة المتسببين بتمزيق النسيج المجتمعي وبروز النَفَس الطائفي وهدر المال العام وسرقة أموال الشعب والاستيلاء على عقارات الدولة والسماح بتكوين وانتشار الميليشيات السائبة بحجج مختلفة لا تخلو من روحٍ طائفية نتنة. هذا إن كان بقي لمثل هؤلاء الساسة الفاشلين شيءٌ من الخجل لحفظ ماء الوجه بسبب وصمة العار التي لحقت ببعضهم وبسلوكياتهم منذ سطوتهم وتسلّطهم على شؤون الوطن، دينًا ودولةً. قبل أيام حدّثني طويلاً عبر الهاتف، مسؤول حكوميّ يحتلّ موقعًا قياديًا في حزب سنّي متنفذ مشارك في العملية السياسية. ولشدّة ما أسرني به، حديثُه عن شعور قائم وصريح لدى مكوّنهم، باعتراف قياديين في الجهة التي ينتمي إليها، بأخطاء ارتكبها قادتُها منذ الإطاحة بالنظام السابق، حينما رفض بعضهم التعاطي مع الواقع الجديد كما ينبغي والقبول بالمستجدات التي فرزها مشروع الشراكة، ما كانَ له أثرٌ واضحٌ على عقد مسار العملية لجهة دون غيرها حين استفراد الأخيرة بكلّ شيء من غير رقابة. ولعلَّ من جملة ما يبدو قد بدر من مقترحات لبعض العقلاء في هذه الجهة، بحسب محدّثي، هو الإقرار بالظلم الذي نالته الأقليات عامة والمسيحيين خاصةً، بسبب ممارسات استعلائية غير متزنة وعشوائية، إنْ لمْ تكن منتقصة من وجود هذه الجماعات المتأصلة في نسيج الشعب العراقي وفي أرض الوطن. وقد كان متحمّسًا لطورٍ جديد في النهج والفكر والأداء، ومنها ما ارتآهُ نفرٌ ضمن هذه الكتلة بضرورة إيلاء الأقليات ما تستحقه من حقٍ واجب بإدارة مناطقها بنفسها على شاكلة يتمّ الاتفاق عليها، ليسَ منّةً من أحد، بل ضمن إطار وطنيّ يعطي استحقاق هذه المجتمعات من حقوق ومطالب طالما تجاهلتها الأنظمة المتعاقبة، وآخرُها نظام الحكم الطائفي القائم على المحاصصة حاليًا. ولعلَّ ما دعا مثل هذه الأطراف لسلوك هذا النهج الجديد في سياستها وتوجهاتها، ما تعرّضت له مجتمعات هذه الأقليات من غبنٍ وظلم وتهميشٍ وقتلٍ وسبيٍ واغتصاب وتهجيرٍ قسريّ وتشريد ونهبٍ لممتلكات وحرق البيوت والمحلات، وكذا من أعمالٍ عنفٍ إجرامية ترقى إلى الإبادة الجماعية باعتراف منظمات ودولٍ وهيئات عالمية. وللحقيقة أقول، أنّي توسمتُ بتطرُّق هذا المسؤول الحزبي والحكومي، رؤية وطنية جديدة مختلفة عن سابقاتٍ سطحية وأخرى رافضة لمثل هذا التوجه أو معاندة من دون وجه حقّ. بل إنّ حديثَه المسترسل قد جرّني لتصديق قيام رؤية تبرز للساحة حديثًا، وهي مؤمنة بضرورة رسم خارطة طريق جادّة تقدّمُ صورة مختلفة عن خطابات سابقة متزمتة ومعاندة لمْ يكن لها هدف ولا حدود لسقف المطالب التعجيزية لأجل المضيّ قدمًا في نهج المشاركة في العملية السياسية. أي أنها ذات طابع انفتاحي أكثر للآخر المختلف بحملها بوادر جديدة للتعايش المجتمعي السلميّ بعد انحسار الظاهرة الداعشية. وحبذا، لو اقتفت أثرَ هذا التصوّر والتوجّه الجديد الذي يستحق الثناء والتأييد من باقي الأحزاب والكتل السياسية المتسلّطة، ولاسيّما تلك الحاملة منها للمشاريع الإسلامية والطائفية، بالإقرار هي الأخرى بضرورة تصويب مسيرتها ولفظ تركة السنوات السوداء من الفساد والتسلّط والطائفية المثيرة للاستفزاز والاشمئزاز والقرف. وهذا ما ينبغي السعي إليه جميعًا، سياسيين ومثقفين ومنظمات وآكاديميين، لإبراز الوجه المختلف في شكل التوجّه الطموح الذي يصوّرُه لنا السيناريو التسامحي الثالث المطروح هذه الأيام عبر مشاريع التسوية، ليُضاف إلى المشاريع الوطنية الصادرة عن شخصيات متزنة ومن عقلاء مجتمع وحكماء ومثقفين مستقّلين في الرأي والمنهج والفكر. وهذا لن يكون قابلَ التطبيق والقبول، إلاّ إذا رست النية لبناء دولة مدنية حديثة ذات سيادة وطنية تحترم حقوق الجميع سواسية، وتتمثّلُ بمؤسسات دستورية رصينة قائمة على حكم الشعب وليس تابعة لجهات إقليمية أو نوازع دينية أو طائفية أو خاضعة لتأثيرات تيارات متطرفة ترفض وجود الآخر المختلف وتختزل حقوقَه بمواطنة دنيا وتذكّرُه بمناسبة ومن دونها بدونيّتِه مقارنة مع الأغلبية المتسلّطة. وفق هذا المنظور المعقول، كان الأجدر بممثلية الأمم المتحدة أيضًا، وهي الراعية لإيجاد تسوية سياسية وطنية تحظى بمقبولية لدى جميع مكّونات الشعب، أن تراعي مثل هذا التصوّر النابع من صميم الروح الوطنية للشعب العراقي، وبموازاة تعلّق الأخير بالوطن وبالحرص الشديد على مصيره ومستقبله. إلاّ أنها مارست سياسة ثعلبية حين تغليبها لتسامي مبدأ الأكثرية على الأقلية، بل وإهمالها حق المكونات قليلة العدد التي تسميها بالأقليات، بالتساوي في المواطنة وحقوقها مع المثلث الذي يتولى السلطة. وهذا التغاضي في المشروع المطروح عن مثل هذا الحق الوطني في التأكيد على مبدأ التساوي في المواطنة، تعزيز واضح لمبدأ المحاصصة الذي استنبطه الحاكم المدني بريمر، ومن ورائه جاء الدمار والخراب لغاية الساعة. فالظرف الذي جرى فيه تمرير قانون الحشد الشعبي ورعاية المنظمة الدولية لمشروع التسوية المطروح من الكتلة المتسلطة الذي يتركز أساسًا على أحقية مكونات ثلاث رئيسية في المجتمع العراقي دون غيرها، وما سيلي ذلك من توزيع السلطة والثروة على هذا المثلث، كما اعتدنا خلال الفترة المشؤومة الفاشلة السابقة، كلها إيحاءات بعدم وجود النية للتخلي عن سياسة المحاصصة في الأمد القريب والمتوسط. وبالرغم من صدور تصريحات ودعوات من أطراف متسلطة ومشاركة في السلطة بشأن هذا الآفة، إلاّ أنها جميعًا تخلو من إرادة لمغادرة نوازعها ومكاسبها. بل إنّ مشروع التسوية ذاتُه، الذي ترعاه ممثلية الأمم المتحدة، يكاد يكون صيغة حديثة لنسخة قديمة تشرعنُ مبدأ الطائفية وترسخ لمبدأ المحاصصة المعمول به. لقد عارضته أطراف شريكة ورأت فيه أخرى نسخة مكرّرة لمشاريع تسوية مطروحة سابقة، ولا جديدَ فيها. إنّ الإنصاف الوطني يكمن بالتروّي في تمرير مشروع التسوية كي يراعي الهاجس الوطني والمجتمعيّ المتمثل بضمان حرية الفرد، أيَا كان، في الدين والمعتقد والفكر والعمل والرأي والملبس والسفر والتنقل والاسترزاق، أي بالعيش الكريم لكل العراقيين من دون استثناء ومن دون تمييز على أساس الدين والطائفة والاستكبار. وهذا لن يكون ممكنًا إلاّ بسيادة الدولة على كلّ مفاصل الحياة، والتعويل على القضاء العادل غير المسيَّس، ووضع حدود وقوانين صارمة لمحاسبة المقصّرين والفاسدين والجلاّدين والمستقوين باسم الدين والطائفة من المكوّن المتسلّط قبل غيره، عبر الكيانات الميلشياوية غير المنضبطة التي تصول وتجول وتؤدي دور الرقيب والحسيب والحاكم والجلاّد وتقرير مصائر الناس والحكم على الأشخاص وتولّي معالجة الحالات والظروف وفق ما تتلقنه من مصادرها ومراجعها في غيابٍ واضح للدولة وأجهزتها الأمنية والرقابية والقضائية. في هذا السياق عينه، نكرّر الأسف المشوب بالحذر، للدور المتخبّط والانتهازيّ والمتحيّز للأمم المتحدة بالوقوف مجدّدًا إلى جانب مثلّث المكوّنات المتسلّط الذي أوجده الغازي الأمريكي، والذي تسبب بدمار اللحمة المجتمعية والحضارية والنفسية لعموم الشعب بالقفز على حقوق الغير من هويات ومكوّنات لم تعرف في تاريخها معنى للتعصّب والعنف والإرهاب والقتل والاعتداء على الغير وعلى الممتلكات العامة والخاصةّ، كما هي حال البعض من أتباع المتسلطين من هذا المثلّث الحاكم. وبطبيعة الحال، لا نقصد في هذه الملاحظة الواقعية، نخبة العقلاء والمثقفين والمواطنين الأبرياء من الذين تجري في عروقهم دماءٌ وطنية خالصة وممّن تهتزُّ قلوبُهم حبًا للوطن وأهلِه الأصلاء. إن لحظات الشعور بالنصر على الآخر المهزوم ملحميًا واجتماعيًا وواقعيًا، ليسَ مدعاةً لنسف السلم الأهلي وفرض شروط المنتصر على القائمين على مجتمعاتهم سياسيًا، أي فرض الواقع على الأرض، مهما كان الإنجاز ومهما كانت التضحيات. فهؤلاء ليسَ بالضرورة أن يكونوا في موقف صحيح لتمثيل شعوبهم. بل الأحرى بمَن استفاق لتوه واكتشف قدرات نصره المدعوم خارجيًا، أن يتعلّم من دروس الماضي ومن الضرر العام الحاصل بسبب إهمال الأنظمة المتعاقبة لحقوق الشعوب ومصالحها وتاريخها. فالسياسة الخاطئة تولد من بعدها سياسات أكثر تعاسة وأعظم خرابًا وأشدَّ ضررًا من سابقاتها، عندما لا يرعوي المتسلّط ولا يريد الاستفادة من دروس الشعوب والأمم. لقد عانت المجتمعات العراقية من اهتزاز وانهيار وتشتّت في رؤيتها الوطنية وفي سلوكها اليوميّ، بسبب انعدام الثقة بين الإخوة الأعداء. وهذا هو الخوف، كلّ الخوف من مشروع المصالحة الوطنية الذي بدأت أولى تباشير فشله في الأفق بإقرار قانون الحشد الشعبي بهذه التوليفة وبمشروع التسوية غير الناضج الذي يعيد العملية السياسية وفق منظور المحاصصة اللعين. بل إن هذين الحدثين، من شأنهما الإطاحة بكلّ الجهود الرامية لرأب الصدع بين مكوّنات الشعب العراقي كافة، والمتشبث بأمل بناء دولة مدنية تراعي حقوق الجميع وتُبنى على أساس حضاري متمدّن وبمؤسسات دستورية قوية يسودها النظام والقانون والاحترام من الجميع وللجميع. وأخيرًا، ضمن سياق التصحيح والإصلاح المتعثّر، لا بدّ من حسم ملف الخلافات بين حكومة المركز والإقليم، عبر بناء علاقات وطنية وعقلانية قائمة على مراعاة وتنفيذ حقوق كلّ طرف، من غير غالب ولا مغلوب، ولا مجاملة على حساب حقوق باقي المحافظات. فالنقاط الخلافية مثار الجدال العقيم بين الطرفين، سببُها الدستور وبنودُه غير الواضحة التي تحمل تفاسير متباينة لحساب طرف على آخر. كما تنتظر المكوّنات الأخرى من خارج المثلّث الحاكم، إنصافَها على أساسٍ التساوي الوطني الذي لا جدالَ فيه ولا مجالَ للتأويل فيه خارج النطاق الوطنيّ. وهي في انتظار إقرار ما يثبت حُسن النية، بمنحها إدارة ذاتية بعد استكمال صفحة تحرير مناطقها وإعمار بنيتها التحتية وتعويض أهلِها جرّاء عمليات النهب والسلب والحرق والتدمير الذي تعرضت له من قبل التنظيم الإرهابي، وكذا من قبل قوات التحالف جرّاء العمليات العسكرية ضدّ داعش. إنَّ جلَّ ما تخشاه شرائح الأقليات اليوم، التأخيرُ في إعادة إعمار مناطقها وغياب البرنامج الحكومي الذي يؤمّن دفع التعويضات المستحقة جرّاء تدمير المساكن والبنية التحتية، إضافة إلى استمرار عمليات النهب والسلب والحرق حتى بعد دحر التنظيم الإرهابي منها. والسبب واضح لا يقبل الشك: ثنيُها عن العودة إلى مناطقها التاريخية، ومن ثمّ وجود نيات شاخصة بإجراء تغييرات ديمغرافية فيها، بحسب الهواجس القائمة في هذه الأيام.
|