كما أتلمس لحم صورة أمامي أتذكر تلك الأيام الحزيرانية التي قلبت حياتنا، نحن الشلة الستينية، رأسا على عقب. نلتقي كل يوم في مقهى الخيام، لنبدد قلقنا بالنقاش حول الحرب التي حدثت في غفلة عنا . نتابع الإذاعات ونذهب مع الصوت الى منبعه فلا تكتمل صورة المعركة على طول الجبهات. صوت أحمد سعيد الجهوري وأغاني المعركة ( الله اكبر فوق كيد المعتدي، وكل أخ عربي أخي) تتردد في أذني فأصك أسناني واقطع بخيالي المسافة لأضع نفسي في المشهد. النقاش كان حادا بين المتفائلين والمتشائمين، والواحد منا هو الأثنين معا . يقطع نفسه بالتناقض والعجز. رغم تسرب الشك الى أرواحنا كنّا نقاومه بالبداهات: كيان صغير ولقيط بحجم إسرائيل لايمكنه ان يهزم أمة عربية بهذا الحجم . الشك يكبر في داخلنا دون أن نصرح به... المارشات العسكرية اكتسبت في أذهاننا لحن الهزيمة. لم يعودنا عبد الناصر في خطاباته على هذه الكلمة، ففي كل خطبه كانت المعركة المؤجلة تقترن بالنصر الأكيد. اتذكر صوته ذاك ، على عكس خطاباته السابقة كان الصوت مجروحا يىًن كما صوت مريض وهو يقول (كنّا نتوقع الهجوم من الشرق فجاءنا من الغرب). وجوهنا نحن الشلة الملتمة تحت مذياع المقهى تزداد شعوبا ونحن بالكاد نبلع ريقنا وعيوننا معلقة في فراغ غانم . لم تكن المفردات المخاتلة ( روح النصر، الثقة بالنصر ) قد دخلت قاموس الهزائم بعد ، لذلك اعلنها عبد الناصر بوضوح (الهزيمة!) وأعلن استقالته كمسؤول عنها. سقط شريف الربيعي كأنما من هزة صرع وجلس ابراهيم زائر ينحب على الأُرض ودفنت أنا راسي في الجدار و البقية غابوا عن المكان في ذهول عجيب. المسرحي عادل كاظم صرخ بِنَا ونحن في لجة الذهول : -ماذانفعل؟ -.... كنّا قد نسينا الأفعال او تحاشيناها، فقد أنستنا المجازر البعثية عام ١٩٦٣خطورة الأفعال السياسية وخلقت فينا انطواءً نحو ذات تتعذب وتستمري عذابها وذلها. كان جوابه على صمتنا قويا وصادما: - نتظاهر. لم نكن نعلم بعد بأن ملايين المصريين نزلوا الى الشوارع في لفتة عفوية وهم يهتفون: - مش حا نسلِّم ! خرجنا من المقهى أقل من عشرين شخصا ودرنا في ساحة التحرير دورتين فصرنا ثلاثين تقريبا، نطالب بالسلاح لنحارب وأكثرنا لا يجيد استخدام بندقية. وجدنا ونحن ندور في الساحة اننا نحن القلة عراة لوحدنا والنَّاس على الأرصفة يتفرجون بمزيج من السخرية والرثاء. بحت أصواتنا وخفت من الخجل ثم عدنا لمقهانا وغرقنا في صمت تقطعه الأسئلة ( لِمَ هزمنا، ما الذي كان ينقصنا، وماذا نفعل؟ تطلب الأمر بضعة أشهر حتى خرج لنا كتاب الراحل صادق جلال العظم( النقد الذاتي بعد الهزيمة). الكتاب قال لنا إن الهزيمة هي هزيمة الجهل مقابل العلم والتخطيط، هزيمة الأنظمة الحاكمة والعسكرتاريا المتخلفة. يفضح الكتاب أوهام الفروسية القبلية والدينية التي تعفي الذات من المسؤولية وتلقي اللائمة على غدر العدو أو تحيل الغدر الى الغرب الذي ساند العدو. علمنا صادق جلال العظم ان الهزيمة كامنة في الذات العربية حكومات ومجتمعات. عرفنا على الشخصية الفهلوية التي تميل لأبسط الحلول وأسرعها. كانت هذه الشخصية وراء الإهمال الكبير الذي أدى الى تدمير سلاح الجو المصري خلال ساعات. بدلا من إلقاء اللوم على غدر العدو والغرب الذي ساعده تعلمت أن احفر مثله في قاع مجتمعاتنا عن أسباب الهزائم التالية. لا أزالُ أتذكر معلمي صادق جلال العظم حين عرّفني به الكاتب الأردني هاني حوراني: منبطحاً على بطنه في غرفة الجلوس ببيروت.يستغل أوجاع ظهره ليكتب ويكتب. وبين لحظة وأخرى يلوي نفسه بصعوبة ليعلق على حديث العفيف الأخضر. كانت فكرة ابليس آنذاك شاغله، هذا الكائن المتوهم الذي نكب عليه كل شرور ذواتنا. حين أودعه، أستعيد هذاالنقد الذي يبدأ من الذات موضوعاً ومنهجاً. الهزيمة موجودة فينا وفي موروثنا والخطوة الأولى لتجاوزها تبدأ من نقـــد الذات.
|