الأطفال والأشلاء والقدر |
كنت سعيداً، ولم تنهار قواي، ولم أفكر ان أرتعش خوفاً، أو أذرف دمعة من عيني، وأنا أتهيئ لأواجه قدري الذي لا أدري بأي لحظة سيعتنقني، لم أبكي عندما استيقظت بعد إن فقدت الوعي، ووجدت رجلاي ويدي اليسرى قد بترت...! ولكن الذي أبكاني وأخافني وأرتعشت له جميع مفاصلي، عندما صرت أتهرب بالكرسي المتحرك من حجرة الى حجرة، خوفاً من أن يراني أحد أطفالي السبعة، ويقول لي بأنه محتاج الى ( 250) دينار، ثمن قطعة بسكويت يشتريها، لتُسكت صرخات أمعائه الجائعة في المدرسة. صرت أتخفى عنهم، وأجعل نفسي في زوايا إحدى الغرف حتى يخرجوا للمدرسة، ولطالما أغلق على نفسي باب "المرحاض" هرباً عنهم، فأذرف الدمع بغزاره وقلبي يتقطع على مصير سبعة أطفال بلا معيل، تقودني مخيلتي الى العالم المجهول، الذي ينتظر هولاء الصبية، هل سيضطرون لترك المدرسة..؟ ويذهبوا للعمل في الأسواق، من يضمن لي أن الدنيا سترحمهم..؟ في زحمة تلك الشوارع المزدحمة باللاأخلاقيات. والدتهم هي الوحيدة التي كانت تشعر في ما أنا فيه، فتقطع رغيف الخبز الى قطعتين، وتضعها بين دفاترهم، لكل واحد منهم نصف رغيف، الأطفال متقاربون بأعمارهم، يخجلوا أن يظهروا أرغفتهم الخالية أمام التلاميذ، فيحدث الكبير أمه بأنهم يذهبون وراء بناية المدرسة خلسة، ليأكلوا أرغفتهم، خوفا من انتقاد اصداقائهم لهم، وكنت أسمع ذاك الحديث الذي لا ينتهي، إلا بدموع أطفالي أمامي، فأرمق السماء وآصرخ هل من موت رحيم يريح أوصالي؟ أو ثمناً لجسدي يشبع أطفالي؟ أين الوطن..؟ وأين من أوهمونا بأنه وطننا..؟ أين ثمن دمائي التي خضبت الأرض؟ أين ثمن أطرافي التي تطايرت أشلاء مع الشظايا؟ أين دستورنا والقرآن..؟ أين حقوقنا وأخلاقهم؟ هل تلاشى كل شيء مثل جسدي..؟ ألى متى أبقى أهرب خوفاً من أطفالي؟ الى متى أبقى أهرب عن أصدقاؤهم، خوفا من أن يعيروهم بأبيهم المريض المقعد؟ لم أكن أستجدي دموعك لقصة أو رواية، بل هي شيء من الحقيقة التي يعيشها الأب (س)، أخذ الوطن ولقمة العيش منه أمتعته، الى صفوف الجيش العراقي، وراح يشاطر أزيز الرصاص، ويصافح البندقية ليلة نهار، ويدفع الإرهاب عن العراقيين شعباً وحكومة، فنال منه التعب والبرد والشمس والعطش والحر مانالوا، حتى تكالب عليه الإرهاب، وراح ضحية عبوة ناسفة زرعت في طريقه، لم يصحوا من شدة الإنفجار، إلا بعدما وجد نفسه في المستشفى، وقد بترت رجلاه الاثنان ويده اليسرى. وضل المسكين يعالج سكرات الوجع والألم بين لحظة وأخرى، وأطفاله من حوله لا حول ولا قوة، يرون أباهم تنهشه أنياب وجع الإصابة البالغة، وقد شلت حركته بالكامل، وزوجة مسكينة، بقت الى جنبه كالطير الذي يشقى لراحة أفراخه، تشق فؤادها صرخات زوجها من شدة الألم، فيلوذ الأطفال أحدهما بالاخر ويصرخون، وهم يشاهدون أباهم بتلك الحالة ويسمعون صياحه. (س) أحد المتطوعين، في صفوف الجيش العراقي، يسكن مدينة سوق الشيوخ في محافظة ذي قار، ساقته الأيام الى هذا القدر، الذي يُبكي الحجر الأصم، في وقت عيون وأذان الحكومة غافلة عنه، يتجرع هو تلك المصيبة التي أبكت العدو قبل الصديق، في أمل الشرفاء والميسورين أن يصلوا أليه بشيء يقلل من معاناته مع نفسه، ومع عائلته من العوز الذي بدأ ينهش أجساد أطفاله، ولعلها الصرخة التي لفتت إنتباه أصحاب الضمير، قادرة على صحوة الضمائر الحكومية النائمة، ويصلوا الى إليه وإلى غيره ويعطوهم حقوقهم المسلوبة، على طريق النسيان والتجاهل.
|