الدين كظاهرة نفسية وحاجة اجتماعية وروحية ظهر مع خلق الإنسان ، ومن يومه الاول ، وكان في أزمانه رد فعل للاسئلة الكونية التي تجابه الانسان وتلاحقه كل لحظة من الزمان ، ما سر الكون وما الغاز الخلق ومبعث الظواهر البيئية من عواصف ورعد وبرق ورياح عاتية ووحوش كاسرة وكل ما يجابه الانسان من مخاوف وقلق وصراع من اجل البقاء على قيد الحياة ؟
لكن العقدة الأصعب التي واجهت الانسان كانت فكرة الموت وغيابه نهائياً من الوجود وسقوط الانسان من قائمة الحياة ليواجه مصيرا جديدا لا يعرف عنه شيئا..الخوف الملازم للانسان منذ لحظة خلقه وهو الكائن الأصغر الأعزل وسط العالم المترامي المليء بالمفاجئآت والمتغيرات والظواهر التي لا يجد لها تفسيراً ، كل تلك الامور جعلته يحتمي بقوى غائبة ما ورائية اجترحها خياله تكون عوناً له في مواجهة الموت وتقيه من كل الظواهر الطبيعية التي تحاصره يوميا وتبعد كل الشرور عنه..لقد مرت البشرية بعدد من أنماط التفكير وتشكَّل لديها الوعي الخاص بكل مرحلة تاريخية ، لكن في كل حين كان الانسان محاولاً صياغة اجوبة عما يدور حوله من ظواهر طبيعية وبيئية يطمئن بها نفسه كي يقدر على تواصل العيش في عالمه القاسي..لقد كانت اولى محاولات الانسان في فك لغز الكون بعيدا عن المنطق والواقع فكانت تصوراته واحكامه خرافية وسمي العقل المنتج لها ( العقل الخرافي ) ، لان الانسان في سفر تكوينه الاول كان يعيش واقعا بدائيا والطبيعة في طور تشكل ولذا لم يتطور عقله بعد وانعكست الاشياء فطريا وغريزيا في ذهنه يقلد الحيوانات في كثير من السلوكيات ولم يتسلح بالمعرفة والعلوم بعد ،وكل احكامه كانت ساذجة وبسيطة ومتشكلة من انطباعات حسية وليست حدسية وما تتركه في نفسه وخيالاته لتفسير ما يجري على الارض والكون فاستعار لكل الظواهر اشكالا غرائبية وحاول ان يربط فيما بينها بنظام حكائي سردي شعري وصورا فنية مجسدة على جدران الكهوف وسيقان الاشجار وادواته البيتية البسيطة جاعلا من كل حدث طبيعي رمزا مقدسا مرعبا ملزما عليه ان يستدر عطفه بتكريس نشاطه لطقوس الولاء والعبودية له وتقديم الأضحية في الأضرحة والمعابد التي اقامها له من اجل ان ينال وده ورضاه ويُبعده عن شروره وثوراته المفاجئة ، كل الطقوس كانت تقدَّم باسلوب غنائي مسرحي وأناشيد جماعية بمفردات دينية تعالج امر الخلق ونشأة الكون والقوى التي تتحكم فيه ..وحين تطور فعل الانسان في الطبيعة وابتدأ بتطويع قوانينها لصالح حياته تطورت ملكاته الجسدية والعقلية ، واخذ ينظر الى الامور بمنظار آخر وانعكست كل الظواهر الطبيعية والبيئية والاجتماعية انعكاسا مختلفا فجعل من كل المفردات الكونية ، القمر والشمس والسماء والنجوم والرياح والماء والارض والبرق والرعد و..و..و ) الهة وخلق لها مجالسَ تلتقي بها وتقرر مصير الانسان في حالة رضاها او غضبها منه وانتخبت كبيرا لها تكون له الكلمة الفصل ، هذه المرحلة من التفكير سُميت ( بالعقل الاسطوري ) وقد ترك لنا الانسان ارثا عظيما من الاساطير ،في الواح الطين وجلود الحيوانات وتدوينها في الجدران والصخر، في كل بقاع الارض تجسد العلاقة بين الالهة وكيف كانوا يتحكمون بالكون وبالبشر وكيف تمت عملية الخلق والايام الستة والصراعات العديدة بين الالهة من اجل صياغة نواميس الحياة ورسم مصائر الناس كل وفق طريقته الخاصة وظهرت بعدها الملاحم التي كانت تجسد بطولات الملوك والقادة العظام وهم يحملون الصفات البشرية والالهية في آن واحد ، هذه الاساطير والملاحم كانت تناقش قضية الخلق العصية وعلاقة الانسان بالآلهة المتعددة وفي كل هذه الرؤى الاسطورية كان الإله الكبير الخالق المتحكم بالالهة الصغار المتعددة والارباب هو الذي يهيمن على المشهد الديني وما الآخرون إلا مساعدون وادوات له يحضرون مجلسه ويأتمرون بامره وقد تصيبهم لعنات الاله الكبير حين يشطون عن ارادته ويغدرون بالانسان كما تنقل الاساطير والملاحم هذا الصراع وهذه الدراما الحيّة ..استمر هذا الحال قرونا عدة الى ان ظهرت الى الوجود الديانات التوحيدية قبل ما يرقب من ثلاثة آلاف عام واستغنت عن الالهة كلها ليبقى الله خالق الكون وسره العظيم وكانت هذه المرحلة تمثل بحق اكتمال( العقل الديني ) الذي ما زال شاخصا ومتغلغلا في البنية المجتمعية حتى يومنا هذا..هذه المراحل من نشأة العقل الديني التي مرت بها البشرية كانت تمثل تطور نشوء الكون وارتقاء الانسان نحو الحداثة الفكرية والتبشير بعالم جديد لما يمثله خطابها من تفنيد للمنطق القديم السائد وترسيخ لنمط جديد للحياة الانسانية وتشخيص المرحلة التاريخية حتى بعلاقاتها الاقتصادية وقيمها الاخلاقية فكانت المعاني والنصوص الدينية تتطور حسب حركة الواقع ونوع القوى الانتاجية الفاعلة فيه..لقد كانت النصوص الدينية على اختلافها مهيمنة على الواقع الاجتماعي وترسم شكل النظام السياسي القائم وتحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية بين البشر وحتى تصوغ مشاعر الناس ولم يكن الملك او الحاكم الا اداة بيد السلطة الدينية التي ترسم الخُطى وفقرات الحكم التي يجب اتباعها وهي التي تحدد الذي يجوز والذي لا يجوز في سلوك الملوك والبشر..لقد دخلت الحياة مفترق طرق وفضاءا جديدا مع بداية الثورة الصناعية التي بدأت في القرن الثالث عشر ، كان لتطور الآلة واكتشاف المرجل البخاري وتحديث قوى الانتاج المِعول الذي هدم الثوابت الدينية ويقينياتها المطلقة ، فانتبهت السلطات الدينية في الاديان كافة الى الخطر الذي يحيق بها ، خاصة وان نصوصها بدأت تتهاوى امام تجريب العلم وفتوحاته الجديدة ووجدت الاسئلة الكونية اجوبة جديدة لها في المختبرات العلمية فما كان شكاً اصبح حقيقة والمطلق اصبح نسبياً وابتدأ عصر جديد للبشرية وهو عصر النهضة، العقل البشري فيه هو المطلق والانسان هو مركز الكون وقد سمي هذا العصر بزمن ( العقل العلمي ) والذي نعيش ثورته الدائمة حتى يومنا هذا..العقل الديني لم يقف مكتوف الأيدي امام هذا السيل الجارف من الحقائق العلمية والتي اطاحت بكبريائه وانزلته عن عرشه ، فابتدأ الصراع الازلي بين العقلين الديني والعلمي حادا منذ اكثر من ثمانية قرون وقد يستمر حتى اخر رمق للحياة ..لقد عمد الكهان الدينيون الى تاويل الاكتشافات العلمية وجعلها مطابقة للنصوص الدينية وان شعروا بالعجز في احيان كثيرة فانهم يطلقون اقسى النعوت على العلماء ويتهمونهم بالكفر والزندقة وقد يصل الامر بهم الى تصفيتهم جسديا وتشويه علومهم واكتشافاتهم، وسجلات الجريمة تحفل بابشع الجرائم التي ارتكبت بحق العلماء والمفكرين التنويرين والذريعة جاهزة على الدوام وهو اشاعة الكفر والرذيلة وتسفيه النصوص الالهية..لقد افرزت الثورة الصناعية والتي جاءت على انقاض المجتمع الاقطاعي ونافية له فكرين اقتصاديين اساسيين وهما الفكر الاشتراكي والفكر الراسمالي وهذان الفكران متناقضين في بنيتهما الاقتصادية والفلسفية ، الفكر الاشتراكي بفلسفته المادية الجدلية وصراعاته الطبقية وديالكتيكه والذي يتقاطع في أغلبه مع الفكر الديني والفكر الراسمالي بقانونه الاقتصادي فائض القيمة وعولمته ومفاهيمه المتطورة في العدالة الاجتماعية الذي يلتقي مع العقل الديني في نقاط كثيرة كون منشأه مثالي ولا يتقاطع في مواقع كثيرة مع النصوص الدينية ، ان هذا الزمن الجديد قد جرد الدين من كثير من اسلحته لأن الأجوبة عن الاسئلة الوجودية يجدها جاهزة في مختبرات العلم وبحوثه التي تتطور مع حركة الواقع والمجتمع واصبحت ضرورات الدين الاجتماعية ضعيفة وحاجته غير ملزمة سوى ما يتعلق بحاجة المواطن اليه نفسيا وروحيا وملاذا يقيه من الشرور العالقة في نفسه لان الصراع لم يحسم بعد والعلم لم يصل الى اخر مدياته وما زالت النفوس عامرة بالتوجس والشكوك ، هذا في المجتمعات الصناعية المتحضرة، اما في المجتمعات المتخلفة التي لم يطرق ابوابها العلم بعد فانها ما زالت تعيش خارج حركة التاريخ ويهيمن العقل الديني على كل مفاصل حياتها وتعيش الازمات الدائمة وتعاني من الفقر والجهل والأمية وتغرق في مستنقعات الماضي واوهامه وخرافاته ويقف الفكر الديني ضد كل محاولة لتحديث المجتمع بالعلم ونقله الى مصاف المجتمعات المتقدمة وهذا ما يحصل في معظم العالم الاسلامي والذي اصبح نموذجا سيئا للتخلف والبربرية..ان سيادة العلم ومنطقه العقلي في المجتمعات هما من يدفع بالدين الى ان يتنحى جانبا وان يبدو بحجمه الحقيقي ملاذا نفسيا مجردا مفصولا بالكامل عن جسد الدولة وهذا ما يعمل على ارجاع هيبة الدين كسلطة روحية والدولة كنظام سياسي يتعامل مع الواقع من اجل تغييره لمصلحة المواطن وكرامة عيشه..التاريخ حركته تصاعديه وان تاخرت بعض البلدان وتعثرت في سلم التطور، كالبلدان الاسلامية ، فانها ستلتحق بالركب ،يوما ما بعد ان ينقشع الزيف ،وتعيش يقين العلم وستنعم بالعدالة الاجتماعية والحرية والعيش الرغيد التي يكفلها النظام السياسي المجترح من الواقع وقوانينه الموضوعية وليبقى الدين ،حين يحتاجه المواطن ،ضمادا روحيا لا يمكن الاستغناء عنه لترويض غرائزه وانفعالاته وتدجين شياطين القلق التي تتقافز امام عينيه كالسراب الذي يزغلل العيون ليحسبه الظمآن مـــــاءً.
|