الوئام الاجتماعي.. منظور عراقي | (2-4)

 

الانسجام التوفيقي والقيادة:
لا يمكن للأركان الأساسية الثلاثة (الثقافة، والدين، والدولة) في أي دولة أن تتوافق ضمن مفهوم معين حينما تكون القيم والممارسات لكل فرد متناقضة بدلاً من أن تكون متكاملة مع الركائز الأخرى داخل النسيج الوطني، وحينما تتوافق الزعامة المجتمعية ضمن الركائز الثلاث يعني أن الزعماء والقادة يتبنون الخطاب نفسه، من ثم فإن تعزيز الانسجام المجتمعي ينبغي له أن يحصل. وفضلاً عن ذلك سيتعزز الانسجام حينما يشغل قادة المجتمع ركناً أو أكثر، أو حينما ينظر المواطنون إلى قيادة شخص لأكثر من ركن  على أنه شرعي، وسيحصل في النهاية الانسجام في القيادة حينما يملك المجتمع القيادة نفسها لجميع  الركائز الثلاث، وعلى العكس ينظر إليها -على سبيل المثال- حينما تُدخِلُ الدكتاتورية العسكرية سيطرتها على الدولة لتفضي إلى تضارب في المصالح بين سياسات الدولة والقوانين الثقافية والدينية والأعراف التي توحد مواطنيها. 
نتائج النظم الدكتاتورية على الديمقراطية العراقية: 
ضمن نظام الدولة الحالية يمكن أن تكون الديمقراطية عاملاً مهماً جداً في تعزيز الانسجام الاجتماعي، وأن الأنظمة الديمقراطية للدولة تسمح بقبول "الآخر"  سواءٌ أكان ذلك "الآخر"  أقلية أم أولئك الذين يحملون وجهات نظر متميزة وفريدة داخل المجتمع الأكبر، وهنا يشير "الآخر" إلى أولئك الذين لا يحملون المعتقدات -على سبيل المثال سياسية وثقافية وعقائدية أو أخلاقية- التي يعتنقها غالبية المجتمع، وموضوع التسامح الذي تسعى إلى تعزيزه الديمقراطية يقود إلى إيجاد بيئة إيجابية يتعزز فيها الوئام والانسجام، ومن خلال هذا "التسامح" فإنه يتسنى لشرائح معينة من المجتمع بأن تكون أكثر اندماجاً بالمجتمع ككل ومن ثم بالدولة، وهذا مهم جدا لدولة مثل العراق ذي التنوع الغني، الذي يشكل مجموعة فريدة من الموارد البشرية التي يمكن لها -على وفق ظروف مؤسساتية وثقافية مناسبة- أن تساهم في تحسين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لها وللمنطقة ككل. 
ولو ان هذه المجموعات لم تكن دوماً تعيش في وئام وانسجام لكن هذا هو المكان الذي ينبغي للديمقراطية فيه أن تسهم في تخفيف حدة التوتر، لكن مع ذلك فالديمقراطية وحدها لا يمكن أن تعمل على تعزيز الوئام والانسجام ما لم تدعمها عوامل أخرى تشتمل على سيادة القانون وبنى مؤسسية تشجع الحوار بين الأركان الأساسية الثلاثة والمؤسسات المرتبطة بها.
 حينها تصبح الدكتاتورية النظام الطبيعي للحكم، تشكل تهديداً للديموقراطية في العراق فإن ذلك يُعدُّ تدميراً للوئام والانسجام المجتمعي. وقد قادت الأساليب الوحشية للدكتاتورية في العراق إلى فصل المواطنين عن الدولة، ومن ثم تجاهلهم وفي ظل الحكم الاستبدادي فإن مؤسسات الدولة -التي وجدت لتعود بالنفع على المواطنين وأن تكون دعامة مهمة من دعائم الانسجام المجتمعي- تعدُّ حكراً على الدكتاتور، ومن ثم فالمواطنون يخشون الدولة بوصفها أداة رئيسة للقمع وعدم الانسجام، وحينما تتم إزالة الأدوات القمعية للدكتاتور سيتم حينئذٍ الانتقام من أولئك الذين يسيطرون على جهاز الدولة، ومن ناحية أخرى وبينما يكون الدكتاتور في ذروة قوته ويستخدم الدولة لأهدافه الشخصية الضيقة فإن المؤسسات الثقافية والدينية تضعف على حساب الوئام والانسجام المجتمعي، ويمكن للمواطنين أن يستعيدوا السلطة والنفوذ حالما تضعف سلطة الدولة الدكتاتورية، ومن ثم سيسعون إلى التوازن والانسجام من خلال الاعتماد المتزايد على المؤسسات الدينية و/أو الثقافية. 
إن القمع المستمر من قبل الدكتاتور -الذي يمتلك عقلية الحكم بالخوف والقيادة وهاجس السيطرة- سيؤدي إلى انهيار المعنويات الثقافية والفكرية للمجتمع، وستخلق ثقافة عدم الثقة بين المواطنين وتعزز هذا الأمر، إذ تضع في اعتبارها أن الثقة عامل مهمّ للغاية في سبيل تماسك أصحاب المصلحة في المجتمع، وفي الوقت المناسب سيفصل المواطنون أنفسهم عاطفياً عن مؤسسات الدولة وسينظرون لداخل مكونهم الضيق من أجل البقاء، ومن ثم تعزيز الأنانية داخل ذلك المجتمع، إن موضوع الأنانيةـالذاتية هذا يفضى إلى معادلة صفرية بدلاً من معادلة (رابح-ـ رابح) في الممارسات التي تسود ضمن أصحاب المصلحة في المجتمع. 
في حقبة ما بعد العام 2003  كان لدينا 13 عاماً من أجل تقييم هذا المشروع الديمقراطي الجديد في العراق، وهي تحتاج إلى التفكير في تأسيسه والتحديات الرئيسة التي تواجهه، ومن وجهة نظر الولايات المتحدة -نظراً لدورها في تطوير النظام الديمقراطي في العراق- فإن الأسئلة التي ينبغي لها أن تطرح هي:
ما الأنموذج الديمقراطي الذي يمكن يتبنى في المجتمع العراقي؟
 إن الديمقراطية لا يمكن أن تفرض او تصدر الى العراق كون الأخير له تجربة ديمقراطية ضعيفة جداً، فضلاً عن ذلك فهو ليس في منطقة ديمقراطية؛ ولذلك فإن هذا يعدُّ محاولة لزرع بذور ديمقراطية جديدة في بيئة غير ملائمة. 
هل الأمة مستعدة للمؤسسات الديمقراطية أم أن هذا ترفٌ يختص بالدول المتقدمة؟
إن مرد إثارة مثل هذه الأسئلة يأتي كون المواطنين ما يزالون يتوقعون نتائج إيجابية من الديمقراطية، مثل: خدمات أفضل، وحكم عادل، وأمن مستقر، ومن ناحية أخرى أصبح العراقيون معتادين على الدكتاتوريات التي تكون فيها عملية صنع القرارات واضحة وصريحة وفي يد عدد قليل، وعادة لا يوجد تحدي امني في نظم دكتاتورية نظراً للعقوبات الصارمة، وفي هذا ربط المواطنون خطّاً بين الأمن والاستقرار الاجتماعي.