يقرأ الطالب ويحفظ نصوص الكتاب المدرسي او الجامعي لأن الحفظ هو الوسيلة الرئيسية للنجاح في الامتحان الذي على نتائجه يعتمد مستقبل الطالب. هذه حقيقة فشل النظام التربوي وتدهوره واساس المشاكل الكثيرة المترتبة على عدم قدرة كثير من الطلبة من اجتياز الامتحانات، فهي ما تبدو لي الممارسة الأساسية التي تشكّل العمود الفقري لفلسفة التعليم والمتعلقة بتحقيق الأهداف وتقييم نتائج التدريس والتعليم وتطبيق الانضباط التعليمي.
ولأن التلقين هي الطريقة الآلية، واحيانا الوحيدة من طرق التدريس، أصبح الامتحان مجرد قياس لكمية المعلومات التي حظها المتعلم في فترة زمنية محددة. فبعد تقديم المعلومات بصورة جاهزة للمتعلم لا يبقى إلا تقييم درجة حفظها وترديدها، ودرجة خضوع المتعلم لسلطة المدرسة والمدرس، فلا داعي للبحث والاستقصاء والإبداع، فالمعرفة ثابتة لا تتغير، وشاقولية عمودية تنزل من المدرس الى الطالب، والامتحان بهذا المعنى مقياس للتلقي والاجترار والخنوع، وليس دليل فهم الموضوع وإدراكه وهضمه. الطلبة يقرأون ويستذكرون معلومات الكتاب المدرسي من دون أدنى أهمية للفهم والادراك، ومن دون أية مناقشة او بحث او إضافة لموضوع التعلم. أهمية هذه القراءة المجردة من الفهم للمتعلم هو اجتياز الامتحان الذي لا يمنح اعتباراً كبيراً للتفكير والنقد والتحليل وإلتركيب، والقدرة على حلول المشاكل المستجدة، والقابليات العقلية الاخرى. لذلك تجد الطلبة "الحفّاظين او الدرّاخين"، يتفوقون بحصولهم على اعلى المعدلات. وبما ان نظام القبول في الكليات الجامعية مبنيٌّ على أساس معدل الامتحان المدرسي نجد هؤلاء الطلبة يملؤون كليات الطب لتفضيلهم لها لما في وظيفة الطبيب من أهمية اجتماعية وكسب مالي. وما عليك لكي تكون طبيبا إلا ان تقرأ كتبك الطبية المقررة وتحفظها على ظهر القلب. اقرأ الكتاب 50 مرة فهو افضل في النظام التربوي العراقي من قراءة 50 كتاباً. لا تضيع وقتك في التنقيب والبحث واقتناء المعلومات الجديدة غير تلك التي يرغب بها مدرسك فهذا قد يؤدي بك الى هاوية الرسوب! لا تقرأ كتاباً (ورقياً او الكترونياً) ثقافياً او قصة أدبية لأنها تضيع من وقتك الذي يمكن استثماره في حفظ الكتب المدرسية. اليس هذا سبباً لانتشار الجهل بين العراقيين وقلة معارفهم الإنسانية واللغوية والعلمية؟ كثرة الأبحاث والدراسات التي تؤكد فشل التلقين في تطوير القابليات الذهنية وما يؤدي اليه من نتائج وخيمة على المجتمع من تكريس لقيم الخنوع والتوكل والتلقي ومن تثبيط لقيم المساءلة، والنقد والبحث والمبادرة، والإبداع، والتفاعل والتعاون والعمل بروح الفريق. ومع معرفتنا بعدم جدوى التلقين وفشل الأنظمة التربوية المعتمدة عليه، فإننا لا زلنا مستمرين في ممارسته، سواء في المدارس او في الجامعات وكل الأدلة تؤكد على اننا سنستمر في تكريس هذا النهج لأننا لا نريد تغيّر عقلية الفرد الخانعة، المحافظة، والمقلدة والتابعة، الى عقلية حرة ونقدية ومبدعة. بالرغم من ان الامتحانات، في بعض الأحيان، جيدة لاختبار قدرة الطالب على تذكر المعلومات تحت ضغط الزمن إلا انه يخدع الطالب، فهو لا يقيس قدراته الفطرية ولا قابلياته المكتسبة، وليس هو بمقياس للقدرة وللمعرفة ولا لحب التعلم. إنه لا يشجع السعي وراء المعرفة بقدر ما السعي لتحقيق درجات عالية. إنه يحصر العقل حول مبادئ توجيهية ويغلقه بعيدا عن التفكير الحـر. إنه يرغم الطالب على الالتزام بمعلومات الكتاب وعلى ما يلقنه المعلم. إنه يشجع الطالب على الغش، وبالتالي على نشر الفساد المهني والكسل الفكري. إنه يؤدي الى عدد من المشاكل الشخصية، وضعف الأداء لدى الكثير من الطلاب المبدعين والاذكياء. واذا كان غرض الامتحان هو قياس درجة تأهيل الطالب لاختصاص اومهنة ما، فهو فاشل في تحقيق هذا الهدف. نأخذ على سبيل المثال، طالب يرغب ان يصبح طبيبا أو جراحا. هل يكون مفيدا ان يتم اختباره عن طريق الامتحان لمعرفة ما اذا كان قد حفظ نص الكتاب الطبي المقرر؟ اليس من الأفضل في هذا العصر من كثرة المعلومات وسهولة الحصول عليها تعليم الطالب أساليب الحصول على المعلومات بدلا من حفظها كالببغاء، وجعل الاختبارات تقيس قدرته في اتقان المادة النظرية ومهارته في علاج الامراض. الحقيقة بلا مناص ان الامتحان في المدارس العراقية ليس باختبار حقيقي لقياس درجة معارف الطالب، وما هو الا أسلوب لتصنيف الطلاب حسب أدائهم في الامتحان. يعرف معظم الطلاب كيف يمكنهم الحصول على درجات عالية في الامتحان: هدوء الاعصاب، والالتزام بالنص، وعدم الخروج عن المألوف او عما يتوقعه المدرس. ما فائدة ان يكون امتحان دور اول او ثانٍ او ثالث اذا كان الهدف هو تصنيف الطلاب في تسلسل من ناجحين او راسبين اذا كان الامتحان لا يقيس الا قابلية تذكر المعلومات واجترارها، وترديدها، ويهمل الكثير من المهام الاساسية في العملية التعليمية، كاكتشاف وتوظيف القدرات والمهارات والمواهب؟ ما أهمية الامتحان الذي يؤدي الى فشل اعداد هائلة في الدور الأول ويدفعهم الى دور ثاني وثالث؟ اليس فشلهم هو فشل النظام التربوي وهدر في الطاقات والموارد والجهود؟ ألا يعود فشلهم بصورة جزئية الى ضعف التعليم وضعف المدرسين وعدم ربط الامتحانات بمخارج واهداف التعلم؟ وما فائدة امتحان يؤدي الى انتاج أعداد هائلة من المتفوقين الحاصلين على مجموع درجات عالية تتراوح بين 90% الى 100% واحيانا اكثر من 100% (لا اعرف نظاما تربويا في العالم يمنح الطالب درجة اعلى من اعلى نسبة مؤية!). وكما تساءلت في السابق "اليس الامتحان هو سبب هذه التخمة فنرى كليات الطب لا تقبل في صفوفها طلابا بمعدلات اقل من 95% في المرحلة الاعدادية، وهذا ما يجعل الطلاب يحفظون كتبهم حرفيا لتجنب اي خطأ مهما كان صغيراً، او اي انحراف عما هو ملقن لهم مهما كان ضئيلا لان درجة واحدة قد تؤدي بهم الى كلية ليست من اختيارهم". لا اعرف اي نظام تربوي في العالم يستطيع التمييز بين قابليات ومهارات طلبة تختلف درجاتهم النهائية بـ 1% فقط، فكيف يمكن دفع طلبة على هذا الاساس لدراسة الهندسة او الصيدلة دون الطب، او العلوم والزراعة دون الهندسة كما يحصل في نظامنا التربوي! باختصار امتحانات المدارس والجامعات العراقية هي اختبارات للذاكرة أكثر مما هي اختبارات للتحليل والإبداع، أو لفهم حقيقي. فإذا كانت لديك ذاكرة جيدة يمكنك الحصول على درجات ممتازة بأقل جهد ممكن. أخيراً، برأيي أن موضوع واجبات وحقوق المدرس التقليدية والمتعارف عليها كنتائج الامتحان يجب ان يعاد النظر فيها من زاوية القيمة العلمية والثقافية لنتائج التعلم وعلى اساس مقدار الجهد المبذول في عملية التعليم والتعلم، والتي يلعب المدرس الدور الأهم فيها بالإضافة الى اننا نحتاج الى معايير صحيحة لتحديد كفاءة الطالب لسبب هو اننا لا نملك حاليا الادوات التي تمتحن الامتحان اي بمعنى هل ان الامتحان حقا يقيس كفاءة وقابلية الطالب. ولماذا لا يقيس الامتحان مدى حاجة المناهج للتغيير او التطوير والتحسين. أليس هذا هو أحد أهم أهداف إجراء الامتحان؟ |