(1) فيما كانت مصر مرتبكة إزاء مقالٍ ليعقوب صروف نُشر في مجلة المقتطف عام 1876 حول "دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس" مؤكداً أن هذا الأمر "أصبح أشهر من نار على علم وأوضح من الصبح لكل ذي عينين وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم" وهاجت الدنيا وتقدم الأب جبريل غباره أرشمندريت الكرسي الانطاكي ببيروت المعارضين بمقال أثبت فيه بالأدلة الدينية ثبات الأرض وعدم تحركها . وبالمقابل تقدم مصطفى باشا رياض وعبدالله باشا فكري من مصر كتيبة المدافعين عن رؤية العلم الحديث والعلوم الطبيعية خاصة مؤكدين أن دوران الأرض لا يخالف تعاليم الدين.
ويقول محمد عبدالغني حسن في كتابه "عبد الله فكري" (سلسلة إعلام العرب صـ199) أن هذه الأطراف قد أجمعت على إحكام المناورة لتأييد قضية الموافقة بين العلم والدين حتى لا يتعطل بحركة المحافظين سير العلم الطبيعي وتقدمه فى البلاد العربية التي كانت ولا زالت في أشد الحاجة إليه ، وفى ظل هذا المناخ وصل شبلي شميل الى مصر ليشارك فيها شجاعاً ومتحدياً الجميع ليصدر كتاباً هزَّ أركان الصفوة المثقفة فى مصر والعالم العربي وهو "كتاب فلسفة النشوء والارتقاء" وهو ترجمة لشرح "بخنر" على مذهب داروين . ويدرك شميل حقيقة الكنز الذي يفجره في وجوه الجميع فيكتب على غلاف الكتاب "طالع هذا الكتاب بكل تمعن ، ولا تطالعه إلا بعد أن تطلق نفسك من أسر الأغراض لئلا تغم عليك وأنت واقف تطل على العالم من شرفة عقلك تتلمس الحقيقة من وراء ستارها" لنتأمل هذه الكلمات ولنستشعر الدهشة لأننا نحن لم نزل حتى الآن بحاجه إلى تكرارها في وجوه الجميع . ويبدأ شميل كتابه ببيت شعر يقول فيه يدفن بعضنا بعضاً ويمشي / أواخرنا على هام الأوائل ثم يبدأ قائلاً "وأعلم أن الإنسان على رأي هذا المذهب طبيعي هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة ، وهذه الحقيقة لم يبق إلى الريب فيها اليوم ولو أصر على إنكارها من لا يزال مفعول التعاليم القديمة راسخاً في ذهنه رسوخ النقش في الحجر فالإنسان يتصل اتصالاً شديداً بعالم الحس والشهادة وليس فى تركيبه شئ من المواد والقوى يدل على اتصاله بعالم الروح والغيب ، فإن جميع العناصر المؤلف منها موجودة في الطبيعة وتعمل على حكم قوى الطبيعة فهو كالحيوان فسيولوجيا وكالجماد كيماوياً والفرق بينهما فقط بالكمية وليس الكيفية والصورة الماهية والعرض لا الجوهر" .. هكذا قلب شبل شميل المائدة على الجميع بحديث شديد الصراحة وشديد الوضوح فى مجتمع لم يزل ينكر الكثيرون فيه مسألة دوران الأرض . وبرغم أنه يكتب مقدمة لكتاب عن "نظرية النشوء والارتقاء" فإنه يربط بين ذلك الاستخدام العاقل للعقل بمعركة الإنسان ضد الظلم والاستبداد . ونقرأ "فما عسى أن ينفع الفضيلة التي يذهب أصحابها غنيمة باردة في هيئات اجتماعية ترفع من شأن الجاني وجنايته ، وتجل قدر المسئ وإساءته وأيضاً ولا تعاقب على أقبح الذنوب إلا إذا كان مرتكبوها ضعافاً ، فإن الهيئة الاجتماعية تقاضي الضعاف على ذنوب هي بذاتها ترفع من شأن أصحابها إذا كانوا أقوياء فالقانون يجب إلا يؤخذ من أفواه الرؤساء والأثرياء وإنما يؤخذ من لسان حال الصعاليك والفقراء حتى يكون أقرب إلى الإنسانية والى إقامة العدل الصحيح وليس إلى تنفيذ الأهواء و"الأغراض النفسانية" ثم يقول "أن قتل الآمال أشد من قتل الأجساد والظلم وضياع الحقوق لا يصبر عليهما ذوو النفوس الأبيه " ثم يواصل هجومه وهو لم يزل في المقدمة "فالملوك لا يُعارضون في ما يقولون أو يفعلون كأنهم من الزلل معصومون أو عن الغرض منزّهون" ثم يقول شعراً من لي برد جماح من غوايتهم / كما يرد جماح الخيل باللجم . ويقول " أنهم لا يعلمون أن العرش الذي يجلسون عليه يقوم على قاعدة هي الأمة ، فإن انسحبت الأمة من تحتهم إنهار هذا العرش . ثم يعلو صوت شميل متحدياً الجميع "العدل كل العدل في الانتقام من الظالمين ، وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون" ثم يعود ليقول "إن الملك يتصور نفسه من طينة أرفع من طينة الأمة وإذ لا يجد أي معارض له فإنه يسكر فى خمر مجده ويعيش في تيه ضلاله . وربما نصب نفسه إلها فى أعين الأمة ، فيستبد بالرعية ولا شريعة له سوى إرادته ولا قانون سوى هواه ، فيستنزف ثروتها ويقتل أولادها ، وعلى الإجمال يتصرف في الأمة تصرف المالك في ملكه" ثم هو يتخطى الحدود ليعلن أنه لا يريد ملوكاً أصلا وإنما "جمهورية ديمقراطية يتم فيها توزيع المسئوليات على قدر المنافع العمومية بحيث تتوافر فيها المنفعة لكل فرد في المجتمع بدون أدنى تمييز مطلقاً" ثم يصيح متوعداً "فمهلاً سادتي الجالسين على عرشكم العالي وبيدكم صولجان المجد والقوة فلا يغضبكم إنذاري ، ولا تغضبوا من حكم الزمان إذا جاء العدل ، فقد صبرنا طويلاً على مضض ولا تطمعوا باسترداد ما فات .. وساعتها سنقول لكم وبأعلى صوت لقد انقضت تلك السنين وأهلها / فكأنها وكأنكم أحلام" والغريب أن كل ذلك يأتي فى مقدمة لكتاب عن "فلسفة النشوء والارتقاء" وكأن شبلي شميل يريد أن يرسخ فكرة تمسك بها على الدوام وهي أن أعداء العقل هم أعداء العلم وهم في نفس الوقت أعداء الشعب وأعداء حقوقه وحريته وأن معركة الانتصار للعقل والعلم يجب أن تسير جنباً إلى جنب في المعركة ضد الظلم والاستبداد . كل هذا ولم نزل في المقدمة .. فلنواصل.
|