الوئام الاجتماعي.. منظور عراقي | (3-4)

الوئام الاجتماعي في العراق:
لا يمكن للوئام أن يسود في العراق ما لم يتحقق عدد من العوامل المهمة، وأن يتم تعزيزها واحتضانها من قبل نسبة مهمة من المجتمع عبر الأركان الأساسية الثلاثة، وإن سيادة القانون يعد أمراً بالغ الأهمية؛ وفي العراق هناك ثلاثة أنظمة قانونية متنافسة أو قواعد قانونية هي: قانون الدولة التقليدي العلماني، والقوانين الدينية المتنافسة (الشريعة)، والقانون القبلي (الفصل)، وهذان القانونان الأخيران للأنظمة الدينية والثقافية (الشريعة والفصل) تطورا بفعل ضعف تنفيذ قوانين الدولة على مدى عقود، وإعطاء الأسبقية بنحوٍ متزايد للأساليب التقليدية، وهذا مثال على التنافر القائم بين الأركان الأساسية الثلاثة للمجتمع، ومن الناحية النظرية وعلى أعلى مستوى-هناك النظام القانوني المنصوص عليه من قبل النظام القضائي للدولة، لكن مع ذلك فليس كل عراقي يثق أو يتبع هذا النظام لأن معظم العراقيين لديهم إيمان محدود بالمؤسسات التي تتولى فرض قوانين الدولة، وبدلا من ذلك فإن المواطنين الذين لا يثقون بقضاء الدولة يرجع الى المصادر التقليدية للقانون: القانون القبلي أو القانون الديني بدلا من قانون الدولة؛ وهذا ما يفسر كيف انقسم المجتمع العراقي على فصائل سياسية واجتماعية مختلفة، بدلاً من البقاء موحدين حول النظام القانوني للدولة المركزية، وعلى نحو مماثل وبسبب التأثير السلبي لدكتاتورية صدام حسين على المجتمع العراقي، فلم يعد المواطنون ينظرون إلى الدولة على أنها تنتمي إلى الشعب، بل تنتمي إلى الحاكم والشركاء المقربين؛ وهذا يعني أنه حينما انهار نظام الدولة في أعقاب الغزو الأمريكي في عام 2003 فقد تراجعت شرعيتها ومؤسساتها أيضاً، ولم يكن استعادة الشرعية والسلطة للدولة أمراً سهلاً، ولم يسعفها النقص الخطير في الأمن أو تحسين الخدمات من قبل مختلف الحكومات الديمقراطية في  مرحلة ما بعد 2003. 
فضلاً عن الأنظمة القانونية الثلاثة المتنافسة هناك ثلاثة مفاهيم متنافسة للمواطنة ايضاً؛ وبالتالي وجود ثلاثة عقود اجتماعية متنافسة بين المواطن ودولته، وعادة تحدد العقود الاجتماعية دور كل من الدولة والمجتمع ومسؤولياتهما: ماذا ستقدم الدولة؟ وماذا تتوقع من مواطنيها؟ والعكس بالعكس، في ما يخص بعد العقد الاجتماعي الديني بين الدولة ومواطنيها فإن وجهة النظر مختلفة، إذ ينظر المواطن للدين على أنه التزام، ويتوقع أن يكون للمواطن نكران ذات حيال الآخر ومنها الدولة، أما في ما يخص البعد الثقافي الثالث فهنا يجب أن يأخذ العقد الاجتماعي بعين الحسبان وجهة نظر المجتمع حيال الشخص ومكانته ووجهة نظر الشخص (مع وضعه الاجتماعي) حيال مجتمعه، ونظرة جماعته حيال المجتمع، وأخيراً نظرة الشخص حيال الأشخاص الآخرين في المجتمع . 
في مجال الثقافة يحتاج العقد الاجتماعي إلى أن يأخذ بعين الحسبان عدداً من العناصر التي تشكل هذا العقد مثل المحافظة، والطبقة، والوضع الاجتماعي، والقرابة، والقبيلة، والوضع المالي، وأخيراً الوضع الخاص للمواطن ضمن المجتمع؛ لذا فالعقد الاجتماعي الثقافي هو أشبه بعقد الطبقة أكثر منه في أن يكونوا مواطنين متساوين. 
العامل الآخر الذي عزز التنافر وعدم الانسجام في العراق هو مختلف المحاولات من قبل الدولة في سياق طموحها لهندسة المجتمع، والأمثلة على ذلك هي الهجرة الجماعية للفلاحين إلى المدن والتمدن السريع الذي بدأ بعد عام 1945، والترحيل الجماعي للمكونات مثل: العراقيين اليهود في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، والتطهير العرقي للفيليين وباقي الكرد في السبعينيات والثمانينيات، واختفاء المسيحية في العراق ومكونات الأقلية الأخرى، ربما كان هذا أحد أهم العوامل المدمرة للانسجام في العراق، وتحجيم الطبقة الوسطى بسبب الحروب والعقوبات الاقتصادية والهجرة الجماعية من الطبقة الوسطى العراقية منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر . 

العراق (الأمة و الدولة):
نظراً لمختلف التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها العراقيون منذ تشكيل الدولة الجديدة في عام 1920، أصبح العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها محطما، وربما تختلف وجهات النظر لكل مكون عراقي عن العقد الاجتماعي الأمر الذي يفضي إلى إحداث شرخ في العلاقات بين المكونات وداخل كل المكون الواحد أيضاً، وهذا الشرخ  يعني أن العلاقات بين المكونات قائمة على المعاملات أكثر مما هي قائمة على الانسجام، وفي الوقت الذي تكون فيه العلاقات غير مستقرة فإن مفهوم واحد للهوية العراقية على مستوى البلد ككل مهددة باستمرار، وعلى الرغم من أنه قد تم إدخال الديمقراطية إلى العراق إلّا أنها لا تزال لا تستند إلى أرض صلبة؛ لأنَّ المؤسسات الديمقراطية في المجتمع ليست قوية حتى الآن. 
في مشروع الولايات المتحدة لما بعد 2003 اتخذ مفهوم بناء الامة مركز الصدارة، وكان هذا النهج خاطئاً؛ إذ إن بناء الدولة يجب أن يكون الهدف وليس الامة، والعراقيون الذين عاشوا خلال تغيير النظام وضعوا توقعات عالية جداً لبناء الامة على أمل أن تكون النتائج التي تتمخض عنها مماثلة لإعادة بنائها كألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، إلَّا أن ذلك لن يتكرر في العراق، إذ كان المحتلون الأمريكيون لم يكونوا واضحين مع انفسهم بشأن المتطلبات والموارد اللازمة لبناء الامة العراقية، فبناء الأمة يجب أن يكون على المدى الطويل، ويمكن أن يكون له أثارٌ سلبيةٌ كبيرة على المجتمع إذا لم يتم التعامل معه بنحوٍ ملائم، ومن ثم فإن إعادة بناء الأمم يجب أن يكون مشروعاً طويل الأمد يتعين فيه بذل جهود متسقة من قبل جميع الجهات المعنية الداخلية والخارجية، فالأطراف الدولية -بما في ذلك الأمم المتحدة والولايات المتحدة- كانت لهم أهداف طموحة جداً وغير واقعية بالنسبة للعراق، وكان واضحاً أن تخطيط الولايات المتحدة لمرحلة ما بعد الحرب في العراق لم يكن كاملاً، واعطية الاولوية للاهداف قصيرة الامد على رؤى طويلة الأجل، ولم تفهم جذور أسباب الصراع بين المكونات وفي ضمن كل مكون واقترن ذلك مع السذاجة الميدانية من قبل أصحاب المصلحة أو الجهات المعنية في تنفيذ مشاريع إعادة تطوير الدولة الرئيسة.