قراءة نفسية لقصيدة أنشودة المطر!! |
سأحاول أن أجري تشريحا نفسيا لقصيدة أنشودة المطر للشاعر العراقي ورائد الشعر الحر بدر شاكر السياب , آملا أن أكتشف أعماق اليراع الذي كتبها والنفس التي تفاعلت مع مفرداتها وإيقاعاتها ونبضاتها العاطفية والإنفعالية والفكرية , وكيف بقيت ذات طعم خالد في النفس العربية. وقد قرأت العديد من الكتابات عن القصيدة , وهذه المحاولة تهدف إلى وعي الصورة الشعرية وتحليل مكوناتها التعبيرية النفسية والعقلية. وربما ستثير نقدا غاضبا , أو ستحسب على أنها حالة أخرى , لكنها قراءة نفسية بحتة.
تبدأ القصيدة بكلمة "عيناك" , والعين العراقية من أغنى عيون الدنيا بما تبوح به من المعاني واللغات التي تعجز عن إحتوائها أبجديات البشرية جمعاء. ذلك أن الروح العراقية بجميع طاقاتها وقدراتها الخلقية والإبداعية تنحبس في الأعماق ويتعذر التعبيرعنها بالكلمات , فتتحول العيون إلى ينابيع بوح صادق وأليم ومضرج بالحزن والمرارة والحرمان. لكن الشاعر يقلب تلك الصورة المأسوية فيقرن بين غابات النخيل البصراوية المتهامسة عند السَحر والمعبرة عن طاقات الحياة والعطاء. وفي هذا توحد وتمثل عشقي مطلق يكون العاشق فيه لا يرى حبيبته كما هي وإنما مثلما يتمثلها في خياله ورؤاه الشعرية المعتقة في قوارير الحب الفتان. وبهذا تكون العينان في حالتي تمثل جمالي متساوق مع نبضات الأشواق والأحلام واللهفة. وهذا توحد جزئي يريد به الكلية لأن وجود الحبيبة وصورتها الخيالية قد تكثفت في العينين. ولذلك فأن التعبير يمتلئ بالصدق والحس الشاعري الإنساني العراقي الفياض , لأن ما يريده العراقي وخصوصا المرأة من شدة إنحباسه يفيض من العيون , فتكون النظرة العراقية أغنى من كتاب. ويبدو أن الشاعر يجيد قراءة العيون ويترجم أبجدية النظرات بأسلوب إنتصر فيه على قيود الشعر العمودي وحرر النفس والروح من أصفاد العروض الثقيلة , فكانت العيون منطلق الإرتقاء بثورة الحرية الفكرية والفنية , لأن العيون ترمز للحرية والجمال والصفاء والإنتماء. في وقت السحر تكون العيون الناعسة المستريحة متحررة من أعبائها فتبدو في غاية النقاء والروعة الخلابة التي تداعب أنياط القلوب , فكان الوصف دقيقا وموسوعيا فيما تلاه من تطورات في الصورة الشعرية والتركيبات الأسلوبية المؤثرة في النفس والروح. في هذا رسم لحالة النعاس وبهاء بريق الحياة المنبثق من العيون التي تكثفت فيها طاقة الوجود والنماء والتجدد والبقاء. وكأن وهج الروعة بدأ يخبوا بإنسيابية نأي القمر عن الأشهاد وقت السحر الصافي الساكن العذيب. وهنا يتحول رفيف الأجفان إلى إبتسامات , لكن المقل الثرية بالمشاعر والأحاسيس كأنها سكرى بالأشواق والأمل , ولهذا أورقت الكروم لتسقيها بسلاف روحٍ إنتشر. دفق الحياة الوثاب في فضاء العينين إستنزل الأكوان وامتد في رحاب المطلق البعيد , فصارت الأضواء تنعكس فيه وتتلألأ الأقمار وتتجدد الصور.
يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحر وكأنه يقرأ لغة الأجفان ويقرنها ببيئته ويقارن ما بين إيقاعاتها الناعسة وحركة المجداف الذي يحركه إنسان هده تعب الليل وهو يسعى بالظفر بصيد يعينه على مشقة الأيام. ..... وفي هذا المقطع لم يكتفي بما يرى بل أخذ يغوص عميقا جدا في قاع العيون بمنظاره الشعري وآلة خياله التواق, فيرى نجوما أخرى , لأن العيون صارت طبقات أكوان ومختصر وجود أعظم. ويخيل للقارئ أن الرحلة الخلابة في عيون المعشوقة قد تحولت إلى صورة بانورامية , لأن الحبيبة تتوطن خيالا متدفقا ومعبرا عن طاقات لا محدودة تخشى منها الحروف والكلمات. وهكذا تهب ومضات الأسى وتتبارق حولهما , فيراهما الشاعر ضبابا لأن صفاء النظر قد شابه التعب وأفقده بعد المنال توهج حرارته ونماء إرادته الإنسانية. هذا النهر الدافق قد سكن في بحر ذي أمواج صاخبة لا تهدأ لكن المساء أوهمنا بسكينته , وما هو إلا قوة فوارة معتلجة بالطاقات. وانطبقت الأجفان وما كان الشاعر يرى إلا سواد المقل قبل أن تغيب الحبيبة في رحلة الهجوع وأنها البحر. وكأنه يقرن ما بين البحر والعيون حيث الدفئ اللذيذ في أعماقه المسكونة بالأحياء وأمواجه التي قرنها بالخريف , وهذا يرمز إلى غياب الجمال وإنعدام العطاء والتواصل الفعال مع الأشياء, فهدأت الحبيبة واستوحش الحبيب. في لحظة التبصر والإدراك العميق لمعاني القوانين الكونية العظمى , المنبثق من مشهد العيون في رحلتها الحرمانية القاسية , تشخص المتناقضات وتنطبق الكليات على الجزئيات , ويكون صوت الحياة واحد. غياب وحضور , وحضور وغياب , ودوران في قفص الوجود كالبلبل المذبوح بصوته الفتان, وما غناؤه إلا بكاء أليم وإنفجارات روح في حنجرة الأسير. بهذا الوعي الأليم يفقد الإنسان لغاته ويبدأ البكاء صولته لكي ينقي الأعماق من صديد هول الحرمان وفقدان الرجاء , فينأى بما يريد إلى غير وجهته , أي يتسامى إلى ما لايريد لكي يحافظ على ما يريده ويبتغيه من الآمال والرغبات المخنوقة في دياجير فؤاده الكسير. ويدخل الطفل في المشهد ليرمز إلى تحطم القيود , والتمني بالتعبير عن الرغبات المكبوتة بحرية الطفل الذي لا يعرف الممنوع , وأنه يسعى إلى ما يريده بحرارة عواطفه وطاقة مشاعره البقائية. نشوة العاشق المتيم المحروم , تشق لها دروبا في خلجان النفس وتصل إلى ما تريده من اللذة والتوحد مع المعشوق. المقطع يشير إلى تعبير رمزي عن الرغبة الجياشة المتحرقة التواقة للإندماج المطلق في بدن المحبوب , والتغلغل بكيانه والسريان بعروقه. ويتحقق بعد ذلك الإعتصار العنيف , فينزفان حقيقتهما الذاتية ويسريان في كيان الوجد السرمد. وكأن السحاب ذكرا والغيوم أنثى أو العكس. وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر هذا التداخل الإنساني الروحي العميق يتجسد بأن الحبيبين قد تحولا إلى صيرورة واحدة متسربة في الصيرورات الأخرى , وأن اللذة القصوى تتجسد في ذلك. وبعد التفاعل الخيالي مع المحبوبة المأسورة بالممنوعات والتقاليد الجائرة , يكون التحدي بطاقات الخيال فيتحقق كل التفاعل في الفضاء , وتلد مسيرة العشق أثمار التلاحم النفسي والبدني , فيكون الشاعر في حضرة الخيال المجسد لما لايكون إلا فيه. .وبغتة يستفيق من رحلته العميقة في العيون , ويصغي إلى إنشودة المطر التي أخذت تنبه الأحياء والبشر.... مطر العلاقة بين الإنسان العراقي والمطر ليست حميمة , وإنما هي قاسية وتشير إلى ما سيحصل من سيول وفيضانات وتداعيات مأساوية إلى بضعة عقود مضت, برغم أن المفهوم العام هو الخير , لكن الأعماق الخفية ترى غير ذلك , فللمطر تداعيات نفسية وسلوكية ذات نتائج متعددة في دنيا العراقيين. ففي القصيدة حزن حرماني موجع وقاسي يستدعي الذكريات المتلائمة معه والمؤازرة لسيرورته العاطفية وكثافته الإنفعالية القاتمة. ومن أقسى حالات الحزن أن تتلقى المدارك إشارات الخير والنماء على أنها غير ذلك , فيكون المطر مفتاحا لبوابة الأحزان التي تندلق معانيها وشواهدها في عبارات القصيدة. تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال هنا يتجلى الكسل والتراخي وفقدان العزيمة والإستسلام , فتغيب روح التحدي والمواجهة والإصرار على صناعة الحياة , فصار المساء يتثاءب متكاسلا ومحاصرا بيأسه وحزنه , وكأن الغيوم تشاركه همومه فتبكي بدلا عنه , أو تبكي معه , لأن دموعها قد تخزنت وتكثفت وإزدادا ثقلا وغزارة لدرجة ما عادت تمتلك القدرة على لجم جماح تدفقها وإنهمارها الغزير على سفوح الآلام. وفي ذروة هذا اليأس والقنوط , يتحقق الهذيان , أو تخيل الأشياء الغير موجودة , فيكون الإنسان في أجواء تساقط المطر وكأنه السجين المقيد , الأسير في ذاته ومكانه ولا يمتلك القوة على الحركة والتعبير عن الحياة الجميلة بقدر ما يستكين لأراجيف التصورات والرؤى السوداوية, التي تستدعي ما يناهض الحياة. المقطع حاد في التعبير عن الفقدان وشدته وقوته العاطفية وتأثيره في السلوك والتفاعل مع المحيط , وكأنه يريد القول بأن الإنسان في بلاده , قد فقد الرعاية والأمومة , فاصبح تائها بلا دليل ولا تربية , وإنما يتخبط ويتأمل على أن شيئا ما سيتحقق ذات يوم ويتمكن من التفاعل الصحيح مع الحياة. وهكذا يتم تجسيد سلوك الكذب والتضليل كأسلوب مريح ومساهم في مساعدة الإنسان على مواجهة الحرمان, فلا يتأكد العمل بالبحث والجد والإجتهاد , وإنما بالتجافي والتجاهل وخداع الذات وتخديرها حتى تستكين وتذعن لحالها وظروفها لكي تبقى وتتواصل مستعذبة البؤس والحرمان. يتأكد الكذب ويتكرر بحيث يكون اليقين محض افتراء , فكيف يكون الصدق بعد ذلك هو السلوك المفيد , ما دام الطفل قد كُذِب عليه في أدق حالاته الإنفعالية وأصعبها. فكيف تعود الأم ؟ في هذه الحالة عليه أن يتخيلها ويتوهمها ويتصور كيف تتفاعل معه وتستجيب لحاجاته , وبهذا يتم خلق إنسان مقطوع عن مجيطه , ومنشطر عنه وبذلك لا يمكنه أن يغيره أو يضيف إليه لأنه في حالة إنقطاع تام عنه. مرة أخرى يتكرر مشهد مأساوي تربوي يؤدي إلى بذر الشك وعدم الثقة في الإنسان , فالكذب الموجع , والتفاعل الذي يدعو إلى الحيرة وعدم الثقة ينمي قدرات الشك عند الإنسان , ولذلك فأن العراقي يكون ميالا للشك وسوء الظن كثيرا بغيره وحتى بأقرب الناس إليه. في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،... نعم إنها هناك لكننا نكذب عليك لكي نتخلص منك ومن تداعيات معرفتك بحقيقة أمرها , فلن نقول لك الصدق وما عليك إلا أن تكتشفه بنفسك بعد رحلة شقاء وكدر , وفي ذلك تنمية لمشاعر الغضب والعدوان والكراهية والإنتقام , لأن الطفل سيبقى يتساء بحسرة عن ذلك الكذب والتضليل الذي صاغ حياته بطريقة أخرى , وأخذها في مسالك متعثرة وغير مجدية , وحالما إصطدم بالواقع القاسي , تنطلق مشاعره وإنفعالاته المحبوسة المضغوطة فتفعل ما تفعله في محيطه الظالم المضاد لمسيرته الآدمية. هذا تعبير ثقيل وأليم , فالمطر لا يصلح للأحياء وإنما هو يتسرب إلى مواضع الأموات ويزيدهم موتا. وبهذا تتحقق الصورة الحقيقية العراقية عن علاقة العراقي بالمطر , ولا بد من الغوص في أعماق الصورة وتعبيراتها السلوكية والإنفعالية. المطر فعل تراجيدي عراقي غريب , لا يمكن تفسيره بسهولة , فالإنسان يستاء من المطر ولا يريده و لأن البيوت كانت من الطين , وتصريف المياه متخلف وغير موجود , وكم يفيض النرهان بسبب المطر ولا يستطيع الإنسان من مواجهة شراسة الفيضان , وكأنه العدوان الذي يهاجم الناس كل ربيع , حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين. ولم يستريح العراقيون من فيضانات النهرين إلا في العقود الخمسة الماضية. فالمطر عدوان , ولا ينفع إلا الأموات , وقد يخلصهم من فم التراب ويجرفهم إلى حيث الذوبان في تيارات المياه التواصل مع دورة الماء في الطبيعة المتغيرة. وهذا موقف سلبي ومناقض لطبيعة الأشياء , فالمطر هو الخير , والعراقي ما تعلم مهارات التواصل مع المطر وإستثمار مياهه في التنمية الإقتصادية , حتى غاب المطر و وعزّ وندر فصار الجفاف ضاربا والمطر عزيزا ومجهولا في أكثر الأحيان.
أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟ وتعلو صرخة النفور من المطر والتخاطب معه على أنه عدو للوجود وليس مبتدأ إنطلاق روافد الحياة ومشيد حلتها الوارفة الخضراء, فتعلن المزاريب بكاءها ويتصاعد عويلها , وتهديداتها ووعيدها لأن المطر سيجرف الأشياء وبسببه تتهاوى البنايات , لأننا ما تعلمنا كيف نجعل الطين يقاوم المطر , وإنما شيدنا بيوتنا من الطين الذي يعشق المطر ويتفاعل معه لصناعة الحياة المعطاء , وبفعلنا قد حرمنا الطين من دوره ورسالته وإعتدينا على حرمته ومصيره , فالطين من أدوات الخلق المتجدد ولا يمكن حشره في جدار. ولهذا فأن المطر الشديد عنوان وعيد وخطر. وفي هذا المقطع تجتمع متناقضات فاعلة في السلوك العراقي , الجوع والحرمان والوحشة والقتل والمطر! فكيف تتفق مع المطر؟ إن في ذلك دليل على أن الإنسان قد تنازل عن دوره الخلاق ومسؤوليته في المساهمة بالحياة الأفضل وإستثمار المطر في صناعة الطعام وتنمية الإقتصاد. فالناس تلهو ببعضها وتستعذب سفك الدماء والتناحر والتصارع على الأشياء بسبب آفة العجز والإستسلام. ولهذا فأن كل موجد دامع حزين ويائس ولا يعرف إلا أن يرى بعيون ذات آليات إدراك محنطة. في هذا المقطع تحليق وهروب من مواجهة الواقع والصعود إلى أكوان الفنتازيا والخيال الساعي إلى إرضاء الحاجات بتصورها وتمنيها , فما دام الإنسان عاجزا عن مواجهة مصيره وقيادة أمره , فمن الأفضل أن ينداح في مواقد العيون ويناجيها ويحسبها بساط الريح , فقد تجمعت فيها أسرار المطر وعواديه وكل ما يتصل به من الأحزان والمشاعر والعواطف القاسية , فالعيون العراقية يحمّلها الرجل العراقي كل ما يريده ويراه , فينعكس ما فيه من الهموم فيها , فهي مرآة نفسه وصدى صراخات أنينه وحرمانه. وعندما يستجير بالخليج , لا يحصل إلا على الصدى وهو تعبير وتعزيز لمشاعر اليأس وعدم القدرة على الفعل والإبداع الحياتي العملي المتجدد المتسابق مع عجلات العصر الدوارة. نعم إنه الصدى , فالواقع الذي حولنا هو الصدى الأصيل لما فينا , فما دام العجز سيدنا , فأن كل ما حولنا يبعثه ويشير إليه ويعبّر عنه بوضوح وبسالة. أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود في هذا المقطع تتلخص القصيدة بفكرتها الأصلية وما فيها من آليات التفاعل والحراك , فطاقات الحرمان المكبوتة بقوة مكابس الظلم والقهر والإستبداد والجهل والتبعية وسحق الإنسان وتجريده من آلة عقله , كلها تعودت الإنفجار بين حين وآخر , وحالما تنفجر تقضي على ما حولها وعلى نفسها , لأن الطاقات المنفلتة تكون عمياء مضطربة ومشوشة وتجهل العقلانية والحكمة وتنكر الهدوء , فما أن تنطلق حتى تصنع مأساة جديدة تساهم في ترسيخ متوالية المآسي العراقية. ويكون المطر عبارة عن متوالية هندسية من التداعيات والملمات القاسية التي تفتك بالشعب على مر العصور. فمن الذي يمتلك قدرات الخروج من هذه الدائرة المفرغة العراقية المأساوية الحزينة الدامعة المنهمرة الروح كالمطر؟! 20\4\2012 |