الوجه المظلم للتطور التكنولوجي ، وإنتكاسة حقوق الإنسان !

يشهد العالم ، تطورا تكنولوجيا مذهلا ، كان يُعدّ مستحيلا منذ أقل من عقد من الزمان ، خصوصا في مجال الإلكترونيات والإتصالات والمعلوماتية ، والسؤال هو ، ماذا قدّم لنا هذا التقدّم ؟ ، هل أصبحت حياة الأنسان أسهل بفضله ؟ ، هل قضى على الفقر والأزمات ؟ ، هل عمّ الرّفاه سائر المعمورة ؟ ، مجرد نظرة سريعة على واقع العالم ، لا نجد من خلالها صعوبة من الإستنتاج أن الأجوبة على هذه التساؤلات هي بالنفي قطعا ، بل على العكس ، فنرى أن الكثير من المشاكل قد تفاقمت مع هذا التطور ، فالبطالة العالمية قد وصلت لأرقام قياسية ، وأن الأزمة المالية الخانقة ، تعاني منها ثلاثة أرباع منطقة اليورو ، وأن الكساد التجاري في تفاقم ، وهنالك أزمات المياه والطاقة والمشاكل البيئية والنزوح واللجوء والفقر والجوع الذي بلغ مستوىً مخجلا ومؤلما ، أما الأرهاب ففي عصره الذهبي إذ يمكن إدراجه كصناعة مزدهرة ، فالتكنولوجيا قد سُخرَت لإنتهاك خصوصية الأفراد والدول بالتجسس عليها ، تحت مبرر فضفاض واسع هو مكافحة الإرهاب ، بينما هنالك مئات الأدلة أثبتت عدم جدية المجتمع الدولي في مكافحته ، بل بإدارته !.
قال أرسطو (ما فائدة الديمقراطية ، إذا تجمع الحكم فيما بعد بيد مجموعة صغيرة من الأغنياء) ! ، وهذا واقع الحال ، فهنالك (دكتاتورية إقتصادية) ، يديرها أشخاص قليلون ، لا يهمهم تفشي البطالة ، أو أي عواقب سلبية ، الذي يهمهم الربح ، والربح فقط ، فمنذ تطوّر التكنولوجيا ، ظهرت (الروبوتات) الأنتاجية ، وبسبب ذلك سُرّحت مئات الألاف من اليد العاملة ، واستُغني عن الآلاف من الكفاءات ، والغريب ظهور تكالب وتنافس محموم بين شركات تطوير سيارات دون سائق ، فقد إستكثروا على الفقراء حتى هذه المهنة ، كان الأجدر توجيه كل تلك الجهود والكوادر والأموال لتطوير برامج الطاقة البديلة الخجولة جدا والضعيفة التمويل ، لإنها مُحاربة من قبل كارتلات الصناعة وبارونات النفط ، ثم الأتجاه إلى برامج التنمية ومحاربة الجوع ، والأوبئة والأمراض وتهدئة النزاعات السياسية ، بدلا من صب الزيت على النار وتأجيج الصراعات ، وخلق الأزمات والإحتراب ودعم المتمردين وحركات الإنفصال في البلاد التي تمتلك الموارد والمواد الأولية ، هكذا ظهر الأستعمار عن بُعد ، وهو أشدّ وقعا من الإستعمار المباشر ، وقد كرّسته التكنولوجيا الحديثة !.
الديمقراطية كمصطلح ليس عربيا ، رغم أن تاريخنا يزخر بها كظاهرة إنسانية غنية بقيت قابعة في الظل ، وأن الديمقراطية بمفهومنا هي الديمقراطية الغربية ، المنبثقة عن الثورة الفرنسية وآراء الفلاسفة اليونانيين والغربيين ، وأن هذه الديمقراطية مصدرها دول هي الأشد إنتهاكا لحقوق الأنسان ، يكفي كونها دولا إستعمارية بالأمس القريب ، لطالما مارست سياسة التجويع والأرض المحروقة ، فبالأضافة لفرنسا التي أعدمت مليون جزائري ، وأمريكا التي قصفت اليابان بقنبلتين ذريتين ، وحربها الكورية ، وحرب الإبادة على فييتنام ، فهذا (ليوبولد الثاني) ملك (بلجيكا) ، أعدم 10 ملايين أفريقي من (الكونغو) ، ومن سخرية القدر ، أن محكمة (لاهاي) لجرائم الحرب تقع في هذا البلد ! ، وأن عين هذه الدول ، قد تناحرت فيما بينها في الحربين العالميتين ، وكانت حصيلتها مقتل أكثر من 110 مليون رجل ! ، وأمريكا هي أول من إستخدم السلاح النووي والكيمياوي والعنقودي ، ثم عادت لتدرجها في خانة (الأسلحة المحرمة) ! ، ولم تُرتَكَب هذه الفظائع منذ عهد الفراعنة ، أنما بالأمس القريب منذ بداية القرن العشرين ، في فترة تكامل وتبلور مفهوم الديمقراطية أدبيا وعمليا ، ولطالما نادت بها هذه الدول ! .
كل هم الأقتصاد الحديث هو أن يشجع النزعة الإستهلاكية للفرد ، ففي كل عام تظهر صرعة جديدة في عالم الهاتف النقال ، ونفس الشيء بالنسبة لأجهزة الحاسوب وغيرها من الأجهزة ، وهذا ينمّي الإنفاق ويشجع على استبدال الأجهزة بإستمرار ، وبالتالي تقل فرص التكافل الضئيلة أصلا ، وما ينتج عن ذلك من مخلفات تضر بالبيئة وترهق ميزانية أصحاب الدخل المتوسط ، فقد قال عملاق مايكروسوفت الملياردير (بيل غيتس) : (الماركات مجرد خدعة ابتكرها التجار ليسرقوا الأغنياء ، فصدّقها الفقراء ) ! ، وتبقى المصارف ومراكز المال هي المستفيد الأكبر ، فالمستهلك لا يعلم وهو يستخدم ماركة (آيفون) للهاتف النقال والمصنّع من قبل شركة (أبل) العملاقة ، أن البطارية والمعالج الدقيق (Processor) والشاشة ، كانت قد طوّرته وزارة الطاقة الأمريكية ، أي أنها جهة حكومية ، وأن تكنولوجيا السيارات بدون سائق ، مشروع يحظى بدعم وزارة الدفاع الأمريكية.
الأفلام الوثائقية والأدبيات ، والتوصيات الطبية التي تحض على الحمية الغذائية والرشاقة ، والأبتعاد عن المأكولات السريعة وتجنب تناول الدهون واللحوم الحمراء ، والأكثار من المواد الطبيعية والخضر ، والتي صارت إحدى صرعات التشبّه بالغرب ، صدرت من دول (كأمريكا) ، صاحبة أكبر نسبة من البدناء في العالم ! ،  وهي ذاتها صاحبة الصوت العالي والرصيد الأكبر من الدعايات ، للترويج للأطعمة السريعة ! .
هكذا تحولت الديمقراطية إلى جسم غريب (Foreign Body) رفضه الإقتصاد الحديث ، فظهرت الديكاتورية الإقتصادية بديلة عن الديكاتاتورية السياسية ، فأتذكر حواري مع السيد (جوردي) البرتغالي من مقاطعة (كاتالونيا) ، وهو صديق شقيقي المغترب في إحدى زياراته إلى بغداد في منتصف التسعينيات حينما سألته عن رأيه بالإتحاد الأوربي الفتي آنذاك ، فقال (إنه استعمار إقتصادي ، لقد إشتروا جميع مصانعنا الوطنية ، وبعد أن كُنا نصدّر منتوجاتنا ، صرنا نحن سوقا لها) !.