ما بعد تحرير الموصل بين المخاوف الداخلية والتقاطعات الخارجية |
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
مع بدء العمليات العسكرية العراقية وانتصارات الجيش وقوات الأمن العراقية في استعادة مدينة الموصل من قبضة تنظيم "داعش"، بدأت بعض الأطراف الدولة والإقليمية والمحلية تظهر مخاوفها السياسية في مرحلة ما بعد التحرير، وبغض النظر عن طبيعة هذه المخاوف وغاياتها السياسية، إلا أنها تؤشر على مشاكل فعلية قد تواجه الدولة العراقية بعد طرد تنظيم "داعش" الإرهابي من الأراضي العراقية. وبالتزامن مع هذه المخاوف كان هناك مداولات في واشنطن -وفقاً لبعض التسريبات الإعلامية- ركزت على العناية بالفترة التي ستعقب طرد تنظيم "داعش". إذ أكدت -المصادر- بأن مسؤولين أمريكيين من المخابرات المركزية والخارجية ولجنة الأمن في الكونغرس التقوا سياسيين عراقيين من مختلف الأطياف في أوقات وأماكن عدة منها (لندن أربيل بغداد وعمان) وجرى إبلاغهم أن القناعة الأمريكية ولعواصم مؤثرة استقرت على أن هناك عجزاً غير قابل للمعالجة في استمرار الحكم على وفق الوضع الحالي، وربما يكون طرح خيار الأقاليم الثلاثة "الخيار الفيدرالي" أحد الخيارات الرئيسة لشكل النظام السياسي العراقي بعد طرد التنظيم الإرهابي؛ وذلك لمواجهة بعض التحديات الداخلية، لاسيما في ما يتعلق بالفصائل الشيعية المسلحة ودور إيران في العراق. وعلى الرغم من صعوبة المعركة ضد تنظيم متمرس على حرب الشوارع في مدينة بسط نفوذه عليها لفترة غير قليلة، إلا أن المدير السابق لوكالة المخابرات الأميركية (C.I.A) وقائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال "ديفيد بترايوس" حذر من السقوط في فخ الحسابات والتركيز المفرط على المعركة المرتقبة في حد ذاتها، وتجاهل التركيز على الصعوبات التي ستعقب عملية التحرير نفسها والخطط الكفيلة بمواجهة هذه الصعوبات، وأكد بأن التحدي الاكبر يكمن في مدى جعل الشركاء العراقيين يتعاونون على إدارة الحكم في المدينة التي يقطنها قرابة مليوني نسمة، خاصة في ظل تعدد الجماعات العرقية والطوائف الدينية والقبائل وغيرها في محافظة نينوى من عرب وكرد وإيزيديين وتركمان وغيرهم، فضلاً عن التحديات المتمثلة في ضمان الأمن في مرحلة ما بعد الصراع وإعادة الإعمار، وفي إنشاء حكم يمثل الجميع ويستجيب لمطالبهم ويلقى قبولهم، لاسيما مع التقاطعات الداخلية بين العرب والأكراد، فضلاً عن مصالح الشيعة هناك والتركمان والإيزيديين والمسيحيين والعديد من القبائل. هذا التقاطع في المصالح قد يكون مدعوم بمواقف إقليمية ودولية مختلفة مع هذا الطرف أو ذاك، فضلاً عن الاطماع الكردية (اكراد العراق وحزب العمال الكردستاني) سواء فيما يتعلق بالمناطق المتنازع عليها أو مستقبل إقامة الدولة الكردية، وعليه فأن تلك التحديات بالتأكيد ستكون عامل مساعد على حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني هناك، وبدورها ستزيد من حالة التشظي السياسي وعدم الاستقرار الأمني في بغداد. إن نهاية أزمة تنظيم "داعش" في العراق لا تعني نهاية أزماته الداخلية، لاسيما مع استمرار المخاوف الشعبية الداخلية من حالة عدم الاستقرار السياسي وغياب الرؤية الوطنية وتغيب مشروع الإصلاح السياسي، فضلاً عن التقاطعات الحزبية والطائفية التي تعيشها العملية السياسية الحالية. ولهذا فان القضاء على تنظيم "داعش" لا يعني القضاء على الأزمات العراقية المتوالية؛ لأن المشاكل السياسية الرئيسة سرعان ما تطفو على السطح من جديد، لاسيما تلك المتعلقة بالسلطة والثروة والمشاكل بين الإقليم والمركز، وأن العقلية السياسية العراقية لم تتغير بعد، وكذلك الوجوه السياسية التي تسببت في الانهيار السياسي والمالي ما زالت قوية ولم تتم محاسبتها، فضلاً عن استمرار الفساد السياسي والمالي، وضعف القضاء العراقي في محاسبة المفسدين وكشف الأموال المختلسة واستمرار التقاطعات الداخلية والإقليمية التي أدت إلى ضعف العملية السياسية العراقية برمتها، وجعلت منها ساحة صراع إقليمي – دولي. ولهذا فإن بين ما تنسجه الولايات المتحدة للعراق خلف الكواليس وفقاً لمصالحها، وبين ما تطمح إليه الدول الخليجية وتركيا، وما تريده إيران وحلفائها في استمرار قبضتها الحديدية على الحكم في العراق، هناك مخاوف داخلية حقيقية، وقد تتزايد تلك المخاوف يوماً بعد آخر نتيجة الفشل السياسي المتكرر في عملية بناء الدولة، وقد تتعزز تلك المخاوف الداخلية من حالة التقاطعات الدولية والإقليمية على الساحة العراقية، التي قد تسهم في نهاية المطاف إلى فشل سياسي عراقي آخر لمرحلة ما بعد تحرير الموصل، والفشل هذه المرة، ربما يؤدي إلى سيناريو التقسم. ولهذا قد يكون سيناريو الحكم الفيدرالي ذو الأقاليم الثلاثة أو الأقاليم المتعددة في ظل وضع محافظة كركوك الحالي ومطالب محافظة البصرة بإقامة الإقليم امر واقع وخيار اساس في معالجة مشاكل العملية السياسية القائمة منذ عام 2003 ونتيجة طبيعية للفشل السياسي المتكرر. وعليه فإن صانع القرار العراقي بمختلف مستوياته السياسية (الحكومة والبرلمان وقادة الكتل والاحزاب ومن هم بموقع المسؤولية) أمام تحدي خطير وكبير، لاسيما في ظل الوضع الاقتصادي المتردي والأزمة المالية الحالية والانهيار الكبير في البنية التحتية ليس فقط في المناطق المحررة من تنظيم "داعش" وإنما في كل محافظات العراق. وهذا بالتأكيد بحاجة إلى تكاتف الجهود الداخلية والابتعاد عن سلوكيات العملية السياسية الحالية التي اوصلت البلد لهذه المرحلة. وكذلك تبرز الحاجة الماسة إلى تطوير وتحسين العلاقات الخارجية (الإقليمية والدولية) على اساس مبدأ حسن الجوار ووفقاً لمبادئ العلاقات الدولية، والغاء القوانين الداخلية التي صدرت على اساس سياسي، ومنح الأقاليم أو المحافظات ومجالسها صلاحيات سن القوانين المتوافقة مع حاجة المجتمعات المحلية؛ لأن دفع الأمور إلى الترقيع والإصلاح الجزئي المتوافق مع مقاسات الكتل السياسية والاحزاب أصبح أمراً غير مقبولاً، لاسيما مع تصاعد حدة الأزمة المالية والسياسية وحجم الدمار والخراب الذي لحق بالمحافظات المحررة من قبضة تنظيم "داعش". فهل نشهد تلاحم سياسي بين القوى السياسية من أجل مشروع سياسي وطني واضح الملامح لتفنيد مخاوف ما بعد "داعش" أم أن الوضع سيزداد سوءً كما يتوقع الكثيرون؟ |