رسالة قصيرة: شعورٌ مشترك يجمع العراقيين في 2017 |
استهل العراق عام 2017، بموجة دامية من التفجيرات وأعمال العنف، طالت العاصمة بغداد بصورة خاصة، ومدنًا أخرى، موقِعة العشرات من الضحايا بين قتلى وجرحى، ناهيك عن خسائر شهدائنا الأبرار في حرب الشوارع الضروس الجارية في مدينة الموصل لتحريرها من براثن الدواعش وأعوانهم من أهلها. وهذه أولى الرسائل القصيرة والمفيدة التي حملتها لنا السنة الجديدة، ومفادُها أنّ مصيرَ الوطن والمواطن واحدٌ، وأنَّ القواسمُ مشتركةٌ بين الجميع. وهذه إن لم تتعزّز باللحمة الوطنية والمصالحة المجتمعية، فباطلاً يعمل البنّاؤون وذوو الإرادة الطيبة. كما أنّ، من جملة ما نستخلصه، أنَّ أمنَ الوطن والمواطن سيظلُّ يشكّل معضلةً عصيّة، حتى مع دحر الإرهاب. ذلك لأنّ فكرَه وآثارَه ومسبباته، ستبقى قائمة ومؤثرة طالما لم ولا يتمّ التخلص من العناصر والأدوات التي ساهمت بنشأته وتناميه عبر إضعاف أركان الدولة وتفكيك النسيج المجتمعي وزرع أشكال الفساد، وتكريس الطائفية وبالإصرار على تفضيل المصالح الفئوية والحزبية والمذهبية والعرقية الضيقة على مصلحة الوطن العليا. وهذا يعني أيضًا، سريان تأثير كلّ هذا وذاك على الواقع الاقتصادي المتردّي في البلد، وإبقاء شرائح كثيرة ومتنامية من جيوش العاطلين، إلى جانب الزيادة في خانة الفقر والعوز والتهميش والإهمال بسبب ما تخلّفه الأزمة المالية وانشغال الدولة في دحر داعش، وغيرها من دواعي النقص في الخدمات والأمن وتعطيل الإعمار وما سواها. وهذا ما يعني بالتالي، إدامةَ الفرص لزيادة حواضن العنف والنزوع إلى فكر التشدّد والتماهي مع أشباهه واتخاذ وسائل الإرهاب والقتل والانتقام سبيلاً متبقيًا للعيش، بالرغم من كونه ليس سبيل الكرامة والحرية التي ينشدها المواطن العراقي في عيشه التقليدي. إلى جانب هذه السمة السوداوية، تظهر في الأفق الوطني علامات رجاء وأمل، تتمثل على نطاق متباين بإصرار العراقيين الأوفياء وبعض الساسة والمراجع المستنيرين والمعتدلين، للتفاعل مع خيارات النخب المدنية والديمقراطية النشطة منذ زمن والمطالِبة بالإصلاحات المتعثرة للأسباب ذاتها المشار إليها في أعلاه. كما أنَّ ما شهدته العاصمة بغداد ومدنٌ عراقية غيرُها، ليلة طيّ السنة الفائتة وبدء العام الجديد، وقبلها المشاركة المجتمعية الوجدانية مع المسيحيين في إحياء مناسبة عيد ميلاد رسول المحبة والسلام، فيها إشاراتٌ ودلالاتٌ عديدة على تلاحم النسيج العراقي المتآلف والمتآزر والمتكافل على مرّ السنين والعهود والأزمان. وما أكثر مثل هذه المبادرات الجميلة والمشجعة من جانب شرائح واسعة من المسلمين، بصفاتهم الدينية والسياسية والوظيفية والمجتمعية على السواء، من الذين نصبوا الأشجار التقليدية، رمزَ الميلاد، وهمّوا بتقديم التهاني وحضور الشعائر الاحتفالية من قداديس واحتفالات خاصة. فهذه من "علامات الرجاء بغدٍ أفضل للعيش المشترك"، وترنو لرأب نسيج اللحمة المجتمعية المتمزّقة التي اختلّت وتراجعت صورتُها وفترت أواصرُها بعدَ أنْ قوّضتها الأحداث بفعل الغزو الأمريكي للعراق في 2003. بل في هذه المبادرات، شعرَ المحتفلون المتجذّرون في أرض شنعار (العراق)، من أحفاد سومر وبابل وأكد وآشور من العراقيين المسيحيين بمختلف طوائفهم ومللهم، أنّ العراقيين عادوا إلى رشدهم في تقدير أهمية التعددية واحترام المختلف عنهم، والذي رأوا، بل ينبغي أن يروا فيه، غنى وثراء وزيادة في الثروة الوطنية التي يشارك الجميع في استثمارها واستغلالها لسعادة الإنسان، ولصالح العراق وأهله، ومن أجل رقيّهم ونمائهم وعودة عهده إلى عصور الحضارة والرقيّ والتقدّم. فالشعور، مهما كان وكيفما حصل، إنْ كانَ موصًى به سياسيًا أو بتوجيه من مرجعيات معتدلة أو عفويًا تضامنيًا، فقد بدا شعورًا مشتركًا جامعًا العراقيين في ظلّ خيمته وارفة الظلال، حين استقبال العام الجديد! كلمةٌ لا بدَّ منها، كي لا تمرّ الإطلالة من دون تعليق ولا تصويب ولا تقويم. فمع بداية الأحداث المتشابكة بالفرح والمآسي بمقدم العام الجديد، هناك مَن يرى أنَ حكومة بغداد بهذه المشاركة العفوية أو المدفوعة، تسعى من جهتها في ظلّ الارتباك الذي يكتنف عملَها والصراع القائم بين الأحزاب والكتل السياسية المشاركة في العملية السياسية، إلى إقناع دول العالم بسيطرتها على الأوضاع وبعودة اللحمة الوطنية إلى مجتمعاتها وبتغيير فكرها المتجمّد والممتزج بمصالح متناقضة داخلية وإقليمية. أي بعبارة أخرى، قد تكون المشاركة الوجدانية والوطنية الواسعة في صفوف المجتمع العراقي بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية هذا العام، مناسبة لتحريك الساكن في كلّ ما يجري في البلد والارتقاء به نحو الأفضل عندما تتحقّق المصالحة الوطنية الصادقة وليس المظهرية الكاذبة المجامِلة أمام وسائل الإعلام والفضائيات، وبعدها تعود حليمة إلى عادتها القديمة وإلى نفس النهج الطائفي والعرقي والتمييزي بين المواطنين ومكوّناتهم. وهذا بحدّ ذاته، من شأنه أن يضع دولَ الجوار والعالم الغربيّ أمام حقيقة لا مفرّ منها، هذا إن لم يكن فعلاً قد حصل، وهي حاجة هذا البلد خصوصًا والمنطقة عمومًا، إلى جميع دول العالم كي لا تدّخر جهدًا أو تتراخى بتقديم المزيد من الدعم والمساعدة، المعنوية والمادية والعسكرية والمالية، بقصد مواجهة ظاهرة الإرهاب الذي يهدّد الجميع، والذي عاد في الأيام الأخيرة ليؤكّد وجودَه وقدرتَه على ضرب أهداف ينتخبُها في المكان والزمان الذي يختاره، عبر خلاياه النائمة التي تستيقظ في مثل هذه المناسبات، كما حصل مؤخرًا، في برلين وإسطنبول ومدن عراقية عديدة. من هنا، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أيضًا إلى العراق وكردستان، ضمن هذه الإشارة التي أعطت زخمًا للعراق ولقواته المسلحة الشجاعة ومَن يتجحفلُ معها، كي تمضي في عملياتها الشاقة بقطع دابر التنظيم الإرهابي ومَن يساندُه ويموله ويدعمه. فقد رأى هولاند، أنّ محاربة داعش في العراق، من شأنه أن يمنع هجمات محتملة ضدّ فرنسا وشعبها. في الجانب المقابل، رأت نخبٌ ومراجع دينية وسياسية، أن مثل هذه الزيارة، لم تكن لتعطي ثمارَها لولا إصرار فرنسا على ضرورة تقويض الفكر المتطرّف وأتباعه أينما كانَ وكانوا. وفرنسا، هي إحدى أهمّ دول الاتحاد الأوربي المكتوية بأعمال الإرهاب الناجم عن خلايا تكفيرية ومتطرفة نائمة فيها، كما في غيرها من دول الاتحاد. كما أنها بهذه المبادرة المتميّزة، أثبتت قدرتَها وإرادتَها السياسية والاجتماعية المستقلّة عن القرار الأمريكي. حيث تشير تقارير أنّ الإدارة الأميركية كانت تفضّل بل وتسعى جاهدة لتأخير حسم الصراع مع داعش لسنوات أخرى، بهدف إطالة الحرب معه وبقائه أداة بأيدي "الديمقراطيين"، لاسيّما وأنّ الرئيس المنتهية ولايتُه، "باراك (بارق) حسين أوباما"، يُعدّ الأب الروحي لداعش وأمثاله من التنظيمات الإرهابية التي طفت على السطح أكثر بعد غزوها للعراق، ونشرِها لربيعها الفاشل في دول عربية أخرى، ومنها الجارة سوريا وليبيا، ولاسيّما في فترة ولايته. إنّ المكوّنات الصغيرة ولاسيّما المسيحية منها، ترى في المبادرة الأخيرة لأركان الدولة والمراجع الدينية العليا، بالمشاركة في الأفراح والمناسبات الدينية الخاصة بها، وكذا في زيارة الرئيس الفرنسي للبلاد، فرصةً للاصطفاف حول الوطن والذود عن مصالحه ومستقبله وإعادة رسم معالمه من جديد، كي يبقى بلدَ الأنبياء والأصفياء والحضارات والتآخي والمساواة، يسوده قانون إنسانيٌ لا تخلو بنودُه من نفحات متديّنة تعطي قيمة للكائن البشري، مهما كان دينُه أو عرقُه أو جنسُه. فالبشر جميعًا متساوون أمام الله خالق الجميع. "فلنكتب في القلوب وعلى الجدران: كلُّ البشر إخوان". هكذا تقول أغنية جميلة أجهلُ ناظمَها ومغنّيها. وليعدِ الحمامُ الذي غادر وطنَ التآخي التعايش، إلى عشّه مرفرفًا فوق البلاد الجريحة، كي يضمّد مع الطيبين تقرّحاته الكثيرة وجراحاته المفتوحة بفعل عوادي الزمان وجحود الإنسان. ولنحاصر الأشرار وأصحاب العدوان في جحورهم السوداء الداكنة. فحبُّ الوطن من الإيمان! وتجسيدُه يكون بالعمل المشترك لإنقاذ البلاد والعباد من واقعهم المزري بالتخفيف من الظلم والجهل والفقر والمرض ومعالجة البطالة واحترام حرية الناس وكرامتهم. عسى أن تضحي كلُّ الأفراح والمناسبات في العراق، مناسبات للعراقيين جميعًا، وأفراحًا دائمة للوطن الغارق في الآلام والجروح والدماء، فيتحوّل العام الجديد إلى سنة نصر وعيد واحتفال. فالقواسم المشتركة كثيرة، والأعراف المتداولة عديدة، والتقاليد المتوارثة التي نحيي الكثير منها معًا من دون أن نفطن لها نتشارك فيها بروح الألفة والجيرة والمحبة. أمّا الوجود المسيحي في البلد والمنطقة، فقد أضحى أيضًا بعد كلّ هذا الذي خبرناه، قضيةً إسلامية واجبةَ الدفاع عنه، لأنه ببساطة، جزء من الهوية التاريخية والحضارية والبشرية لشعب العراق والمنطقة وليس للمسيحيين فحسب.
|