العرب والاسلام .. ظلم متبادل

لم تظلم امة في التاريخ مثلما ظلمت امة العرب، كما لم تحظ امة بفرصة للنهوض والتقدم واثبات الوجود بل وقيادة العالم مثلما حظي بها العرب ، غير ان الذي قدم لهم تلك الفرصة وهو الاسلام، ظلمهم كثيرا بعد ان ظلموه فترات عدة عبر تاريخهم حتى اصبح الاثنان يعيشان حاليا ظلما متلازما ومتبادلا، مؤطرا بدعوات رفض كل منهما للاخر، ومحاطا بسلوكيات ونظريات علم واجتماع وسياسة واقتصاد تخطت فواصل الزمن وتسيدت على حركة المجتمعات والافراد والمؤسسات، فبدى وكأن الاسلام اسير فشل العرب، مثلما ينظر بعض العرب الى انهم اسرى فشل الاسلام في مسايرة الحضارة والحداثة، وانه السبب الاكبر في تردي اوضاعهم وتوسع صراعاتاهم وانتشار الارهاب في بلدانهم وخارج حدودهم مما جعلهم متهمين دائما بنظر الاخرين حتى وان لم يرتكبوا جرما وذنبا..
يمكن تعريف العرب قبل الاسلام، على انهم قبائل متفرقة يغزو بعضها بعضا، وهذا التعريف ليس علميا ولا تاريخيا، ولكنه توصيفي الشخصي لحالتهم قبل ان يرفع الاسلام من شانهم ويقدمهم الى العالم والى التاريخ كامة صاحبة رسالة سماوية عليها واجب تبليغها للبشر اجمعين، حتى ملكوا الارض وتسيدوا الامم وحكموها، ولم يكونوا اهل علم وفن، بل اهل كلام فقط، لكنهم وبسماحة الاسلام التي يتنكر لها وينكرها الكثير اليوم، تقبلوا علوم الامم، نسخوها وترجموها وابدعوا في تطويرها وابتكار ماهو جديد في حدود عصره، حتى كان بيت الحكمة وكانت بغداد وجهة العلماء والمبدعين والمبتكرين من كل بقاع واقاصي الارض، وقدموا تلك العلوم والابتكارات الى العالم اجمع ولعل الغرب لايستطيع حتى اليوم نكران تأثير العرب عليه قبل ان تبدأ نهضتهم هناك وسباتنا هنا، ولم يكن ذلك ليحصل، ولم يكن بامكان العرب آنذاك ان يفكروا لحظة واحدة بتحدي امبراطورية فارس أو الروم لولا ان الاسلام قد دفعهم واعطاهم من الزخم والروح المعنوية ما لايمكن لاي قوة اخرى منحه للبشر، فنشأة الامبراطوريات كانت تعتمد على رغبة افراد وجماعات بالسيطرة على الارض والممالك المجاورة، مستندين على توفر العنصر البشري والسلاح ، في حين نشأت إمبراطورية العرب لنشر العدل والسلام والتوحيد مع قلة العنصر البشري والسلاح ولم يكن الهدف هو الطمع بالسيطرة والملك ، قلة العدد والسلاح وعدم وجود تاريخ لدولة قوية او امبراطورية معروفة للعرب تزاحم الاخرين، كان وراء سخرية اباطرة الفرس والروم منهم يوم كتب لهم النبي محمد كتبه التي يدعوهم فيها الى الاسلام ، الرغبة لنشر الدين وتبليغ رسالته الى الامم الاخرى دعت جميع المؤرخين الى تسمية غزوات العرب وحروبهم انذاك ( بالفتح الاسلامي) ، على عكس من يحلو له هذه الايام باطلاق تسمية (الاستعمار العربي) عليها كما قرانا في مقالات منشورة هنا وهناك ، كجزء من النكاية والاهانة لامة العرب وتزييفا لتاريخها أيضا..
فضل الاسلام اذن على العرب فضل فريد من نوعه، فهو الذي جمعهم بعد ان كانوا قبائل متفرقة متناثرة، لا يحسب لهم حساب سوى في التجارة المعهودة مع الشام، ووحد كلمتهم على الايمان ودفع بهم لينتشروا خارج حدود الصحراء التي لم يكونوا ليفكروا يوما بتخطيها، ومثلما قدم الاسلام للعرب هذا الفضل، فانهم ايضا كانوا من احتضنوه ونصروه ونشروه مضحين بدمائهم وبارواحهم، الا ان تضحية العرب تلك، وايمانهم بان الاسلام لجميع البشر افقدهم الاحساس بعنصرهم والتمسك بقوميتهم كحاضنة للدين وقائدة للامم، وفتحوا ابواب الحكم والقيادة لكل من هب ودب ما دام قد نطق الشهادتين، وهكذا تغلغت الى دهاليز الحكم عناصر من مختلف القوميات وكان النصيب الاكبر للفرس وللاتراك، قبل ان تاتي موجات الغزو المغولية والتترية والسلجوقية ومن ثم تبادل الفرس والاتراك حكم الدولة الاسلامية، وبهذا يكون العرب قد ظلموا الاسلام حين اباحوا قيادته لغيرهم من الحالمين والطامعين، مثلما ظلم الاسلام العرب بتضييع هويتهم عبر سماح شريعته لكل من يجد فرصته وطريقه للحكم، حتى انهم وفي اضعف لحظات التاريخ للحكم الفارسي او التركي لم يفكروا باسترجاع ملكهم بل تركوا الصراع يجري كما جرى دون اهتمام لشخصيتهم
وكيانهم، فلم تكن الدولة الاسلامية عربية خالصة الا في العهد الاموي، ولم تكن حتى انجازاتهم في العلوم والاداب عربية خالصة، وعبر التاريخ لم تطلق تسمية الحضارة العربية الا ممزوجة بكلمة اسلامية كون ما تحقق لا يخص العرب لوحدهم وليس من نتاجهم الخالص..
لقد حاول بنو امية بناء دولة العرب من خلال الاعتماد على القبيلة اولا وعلى من هو قريب منها، ولم يفسحوا المجال للفرس والاتراك بتبوأ مراكز السلطة العليا، حتى انهم استبعدوا من قبائل قريش كل من لايؤمن بحقهم بالملك وكل من يعترض ويناصبهم العداء، غير ان ضعف الادارة للخلفاء المتاخرين ودسائس الفرس بشكل خاص والذين وجدوا انفسهم مفلسين بعد امبراطورية كبرى وتشجيعهم للمعارضين لبني امية ، فسح المجال لقيام ثورة بني العباس بقيادة فارسية عن طريق ابو مسلم الخراساني لانهاء دولة العرب وتاسيس الخلافة العباسية التي فتحت الابواب على مصراعيها للفرس والاتراك للتلاعب بمقدرات الاسلام ودولته، رغم ان الحضارة الاسلامية قد بلغت عصرها الذهبي في العلوم والتنظيم والادارة والثقافة والترجمة في عهدهم، الا انها لم تمنح العرب فرصة بلورة شخصيتهم كما لم يقم العرب باي خطوة من شانها عودتهم الى ماكانوا عليه في بدايات نشر الاسلام، واستمر حالهم كتابعين بعد ان كانوا هم الرواد، في حين تمكن الفرس والاتراك من بناء سلطانهم وامبراطوريتهم باسم الاسلام وتبادلوا الادوار بينهم مرات متعددة،

كل ذلك جرى وفق شريعة الاسلام التي تقول( لافرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى) حتى الحرب العالمية الاولى وبدء عصر الاستعمار وتفكيك اصول ومخلفات الدولة العثمانية الى ما هي عليه اليوم..
ومع الاستعمار البريطاني والفرنسي وانتهاء دور السلطان والخليفة، انتبه العرب الى انفسهم، والى هويتهم المائعة، وبدات الافكار القومية تأخذ فسحتها ممزوجة بالاسلام مرة وبالقومية الخالصة مرة اخرى، و لكنهم وبعد قرن من الزمن وبعد فشلهم في تحقيق ذاتهم وبناء وحدتهم، يعيشون وضعا فيه من الغرابة والتناقض الشيء الكثير، بعضهم يرى ان عصر القومية قد انتهى، وان الحديث عن وحدة العرب ضرب من الخيال بعدما تحول العرب اعداء لبعضهم، والبعض الاخر يرى في الدين الذي قدمه العرب الى العالم سببا للتراجع والمآسي والمعاناة والصراعات، ويدعو الى فصله عن الحياة العامة وجعله مقتصرا على العلاقة بين الفرد وخالقه.. اي اننا كعرب في النتيجة، خسرنا عروبتنا بسبب الدين، ونريد ان نخسر الدين ليس لانقاذ عروبتنا، بل لمسايرة العالم الاخر الذي يرى في اسلامنا عورة نحتاج الى سترها، اي اننا بعد خمسة عشر قرنا مليئة بكل ما حواه تاريخ العالم من خراب وبناء، خرجنا من السباق صفر اليدين..
اي عبث اذن كان تاريخنا، واي عبث هو حاضرنا، وكيف سيكون عبثنا في المستقبل؟..