صباح يوم... فيه «عم شعبان»

 

يصحو عم «شعبان الأفغاني» الساعة الخامسة صباحاً، وربما قبل ذلك بقليل، ما زلت أتذكر صوته المبحوح وطريقته في الحديث بعربية مكسرة.
لا أعلم إن كان عم شعبان لا يزال يخبز حتى الآن، هو صاحب مخبز للتميس، وقتها كان التميس يباع لوحده، بينما الفوال بعيد في الطرف الآخر من الحارة، يبيعه أبو إبراهيم اليمني.
كنا ومازلنا نياماً، بينما كان يخبز ويعجن ويقدم لنا «التميس»، ساخناً طازجاً كل يوم قبل أن نذهب مسرعين إلى مدارسنا، في الوقت نفسه تقريباً يصحو «ظفير» البنغالي، حاملاً مقشته وجاروفه باتجاه شوارعنا، سيزيل منها تلك الأوساخ التي خلفناها طوال الليل، وسيأخذ بقايا عشائنا من حاويات القمامة.
خرج من «بركسه» الذي يشاركه فيه أكثر من 700 عامل آخر، كل ما تناوله بضع لقيمات من عدس شبه مطبوخ.
لم نسأل أنفسنا عن طعامه، ومسكنه، ولا ملاءمتها للحياة الإنسانية، وربما لا يهمنا ذلك، فنحن نعبر بجواره وجوار غيره وكأنهم غير موجودين.
سيارة غير آمنة مليئة بأعداد أخرى من العمال باتجاه بناية أو مدرسة أو مستشفى، سيسكنها ويستخدمها سعوديون، هم سباك وكهربائي وبناء وحداد، وحمال للأسمنت والتراب، لكنهم يحملون عنا ما لم نحتمله، أو لنقل ما لم نتعلمه ذات يوم.
في تلك اللحظات تتهيأ «روزينا» الممرضة الفيليبينية، لتدخل على أحد المرضى السعوديين ممن بلغ الـ70 أو الـ80 عاماً، وأقعده المرض، وأنهكته السنين. ستقوم «روزينا» بغسله ووضوئه، كي يصلي الفجر، فلا أبناؤه بقربه ولا بناته، ولن يفعلوا.
بجوار حجرته توجد غرف المختبر، والعمليات، والجراحة، وتحتها غرف الولادة، وكلها مليئة بخبرات كبيرة، طببت وعالجت، وطيبت خواطرنا طوال عقود.
يقف في الإشارة بجوارنا «شافيق» الباكستاني يقود صهريج المياه باتجاه أحد منازلنا حاملاً عنا العطش، عندما يصل سيجد أننا غادرنا إلى أعمالنا، وليس هناك سوى حارس العمارة اليمني النبيل عم عبده، سيقوم بفتح باب الخزان وسيصب الماء، وسيحاسبه من راتبه القليل، ثم سيدور بعد المغرب على بقية الجيران، فيهم من سيعطيه، وهناك من سينهره، لا يهم المهم أن نأتي بعد الظهر ونجد ماءً نغتسل ونشرب ونستحم منه.
أيضاً سنجد أن العاملة الإندونيسية «رحمة» قامت بإعداد وجبة غداء منوعة، فأحمد لا يأكل الدجاج، وسلمى لا تأكل الأرز، وسميرة تحب المكرونة، وهي قبل ذلك نظفت ورتبت الغرف والحمامات، وغسلت الملابس وكوتها وعلقتها، وهي من أيقظ الأبناء، وأصرت على تناولهم إفطارهم، وحملت حقائبهم للسائق «أيوب»، بينما «ست البيت» تغط في نوم عميق.
بالطبع نعرف جميعاً أن «رحمة» لم تنم قبل الثانية فجراً، لأن أعمالاً أخرى في البيت لم تنتهِ.
في المقابل يقوم السائق «يوب» بدوره، ويوزعهم على مدارسهم، وسيقوم بلفات عدة في السوق ليشتري حاجات البيت.
بعد العشاء ونحن متحلقون على برنامج تلفزيوني، أو على «أيفون» و«آيباد»، سيأتي من دون أن نعلم سائق صهريج شفط مياه الصرف الصحي، وهو على فكرة من العمالة «الإثيوبية»، التي أسهمت طوال سنين في هذه المهنة الصعبة.
عندما طاف بي كل أولئك الفقراء المهاجرون، الذين قادهم الجوع والحاجة، كما قادنا من قبل للهجرة، وترك الأوطان، والأحباب، وجدت أنه لا ذنب لهم، ولا لنا في جلبهم وتشغيلهم، فلا يوجد سعودية ستقوم بدور «رحمة»، ولا الممرضة «روزينا»، ولن تجد سعودياً يقوم بعمل أخينا الإثيوبي، ولا السباك ولا النجار.
لا يقولن أحد إننا أو العمالة الأجنبية، سبب هذا التردي في «السعودة» والتوطين، إنهم مثل الأعضاء التعويضية، لـ«مريض» استأصل قدمه ويده وعينه، وحتى قلبه، بيديه بلا رحمة ولا تفكير.