مَقامات الأربعاء (2)

 

المقامة الثانية!!

 

حدّثنا يحيى بن حيّان وقال: تدحرجت الأيام , يحدوها إضطرام , فوق سفوحٍ تعبّدها الآلام , ويتسلقها إحتدام.

ومضت إلى وديانٍ من النيران , تتراكم فيها الويلات بالأحضان , فيرتعب منها كل مخلوق وإنسان , وتغيب الآثار والصور في الأطيان , وتنطق بلسان حالها الأشجان , وتحدّث عن أهوالها البالغة العنان.

فتداهمت العواصف الهوجاء , وتناهبت الأرجاء , وغابت السماء عن بصر الأحياء.

 

وقال منبها : " واغنم من الحاضر لذاته...فليس في طبع الليالي الأمان"!!

 

وحدثنا عن زمن كان فيه الإنسان يحترم الإنسان , في بلدٍ يشيع فيه الخير والأمن والأمان , وترفرف  عليه السعادة ويغمره جميل الإطمئنان.

لكن الزمان يتغير بتبدل السلطان , والله له في كل يوم شان , وكل مَن عليها فان.

 

"وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت" (لقمان: 34)

 

"وما الأرض  إلا مثلنا الرزق تبتغي

فتأكل من هذا الأنامِ وتشربُ"

 

فالدنيا دولاب أحزان , وناعور خسران..

 

"ومَن عاش مات , ومَن مات فات , وكل ما هو آتٍ آت"

 

"وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيتَ كلّ تميمةٍ لا تنفعُ"

 

"وما المال والأهلون إلا ودائعٌ

ولا بدّ يوما أنْ تردَّ الودائعُ"

 

لكن الناس لا يعتبرون , وبالضلال يعمهون , وعلى سطوح الآثمات يتدحرجون.

 

"فما أكثر العِبَر وأقل الإعتبار"

 

فتراهم يقاتلون بعضهم , ويهضمون حقوقهم , ويغمطون دَوْرهم , ويستثمرون في شرهم.

فخيرهم مجحود , وظلمهم موعود , وبعضهم موقود , كأنهم وحوش تفترس الموجود وترغّب بالصدود.

 

فالويل من الإنسان , فالسوء حصان , والحكيم مُستهان , والسفيه صاحب التيجان , والعالِم هربان , والدين قال فلان وأفتى علان , والدنيا تتقلب فوق النيران , والناس دجاج وصيصان , والحاكم بأمر الآخرين , يصول في حلبات الخانعين , عبدٌ يقود المُستعبَدين , ويرهنهم بالمُهين.

 زمنٌ الدين فيه عجين , تصنع منه ما تريده من الأفانين , وتغرر بها ملايين المساكين , وتأخذهم إلى جحيمات الأنين , وتسفح أرواحهم ودماءهم على رمال الأفك المبين!!

 

وختم يحيى بن حيان مقامته بقوله: " إني وجدت الأمر أرشده...تقوى الإلهِ , وشرّهُ الإثمُ"

فقلت: وهل نحن في زمانٍ إختلط فيه معنى التقوى بمعنى الإثم؟!!

لكنه حدّجني مندهشا وأخذني إلى مقامة أخرى...!!