أوربا: هل هي بحاجة إلى إعادة بناء؟ |
يبدو أن القارة الأوربية، ستظلّ في مرمى الإرهاب الدولي المتنامي الذي رأى فيها خير حاضنة لمؤيديه، وأفضل أرضية خصبة لتنفيذ عملياته الدموية المتزايدة، طالما بقيت الأسباب والذرائع قائمة. وهناك مَن يعتقد أنها هي التي جنت على نفسها، كما فعلت "براقش"، حين بادرت لاحتضان عددٍ غير منظورٍ من المتسلّلين، بينهم متشدّدون ومتطرّفون، عبر موجات الهجرة الكاسحة، المنظمة منها وغير المنظمة، وإيواء غيرهم من المغضوب عليهم في بلدانهم على يد حكامهم المتسلّطين. فهؤلاء أصبحوا قنابل موقوتة، قد تنذر بالانفجار في أية لحظة حينما تتسنى الفرصة. وأوربا عمومًا، يُؤخذُ عليها، تنفيذُها برامج إعادة توطين عشوائية لم تأخذ في نظر الحسبان خلفياتِ بعض هؤلاء المنغمسين في أعمال الجريمة المنظمة والكراهية المتنامية ضدّ كلّ شيء فيها وفي تركيبتها الغربية الحضارية التي تحملُ بصماتِ أخلاق لا ينتمي إليها أصحاب هذا الفكر المنحرف. فالإرهابيون ضمن منهجهم هذا، يَعدّون القارة العجوز أرضًا صليبية واجبة الجهاد والقضاء عليها وعلى عقيدتها، بالرغم من أنّ معظم بلدانها لا تعير للدين وللمعتقد اهتمامًا في أنظمتها ودساتيرها العلمانية، بحيث يخجل حكامُها أحيانًا أو يتهرّبون أحيانًا أخرى، حتى من ذكر اسم الله في حياتهم العامة والخاصة وفي العمل والشارع. إنَّ تنامي المنهجَ التكفيري الذي يحملُه الإرهابيون من أصحاب الفكر المنحرف، ضدّ كلّ مَن يختلف معهم في المنهج والرؤية والتطبيق للعقيدة التي يؤمنون بها، قد جعله في تصاعد متنامٍ بسبب غياب وسائل الردعٍ الدوليّة الصارمة ضدّ انتشاره الواسع وتهيئة الأرضية له من قبل دول كبرى قوية الاقتصاد، لاستخدامه ورقة في شنّ النزاعات من أجل تحقيق مصالح قومية ضيقة تخدم أسياد هذه البلدان الاستكبارية. كما ساهم في جبروته واتساع رقعة عملياته وتوسعة مشاريعه، الدعم اللاّمحدود الذي قدّمته وما تزالُ تقدّمه بعض الدول الراعية والجهات الممولة والساندة له، ومن ضمنها مراجع دينية غير رصينة وشيوخ الكراهية والقتل، الذين يساهمون في غسل أدمغة البسطاء من الشباب المغرَّر بهم بذرائع خرافية بنوال الجنّة وحور العين ومن العذارى ما طابَ لهم ومن حلقات الخمر الطيب، في حلقات الجوامع والمراكز الدينية غير المرصودة التي لا تخضع للرقابة. ليلة الثلاثاء 20 كانون أول 2016، تكرّرَ ذات الفعل الإرهابي في برلين الألمانية، بطابعه العنصريّ المتنامي، لشبيه الجريمة التي اقترفت في مناطق أخرى من أوربا، ومنها مدينة نيس الفرنسية قبل أشهر، وبالذات في 14 تموز من العام الجاري، ضدّ حشد من المواطنين الأبرياء كانوا يحتفلون بالعيد الوطني لفرنسا. في حينها، راح ضحية ذلك الاعتداء الإجراميّ، 86 قتيلاً وأكثر من 400 جريح، لتضاف إلى قافلة قتلى سبقوهم قبل عام في أحداثٍ شهدتها مدنٌ فرنسية أخرى، لا تقلّ مأساوية حين حصدت أكثر من 230 قتيلاً أيضًا. وبالرغم من ضآلة الضحايا في اعتداء برلين، حيث تتحدث مصادر عن مقتل 12 شخصًا فقط وجرح أكثر من 40 آخرين في عملية دهس بشاحنة اقتحمت سوقًا تحتفل تقليديًا بعيد الميلاد، إلاّ أنَّ الحادثة الجديدة، قد أعادت مرة أخرى، أشكالاً من مشاعر الغضب والرعب والاحتجاج على سياسات بلدان الاتحاد الأوربي غير المنضبطة، ولاسيّما سياستَها في استقبال موجات اللاجئين من دون تمحيص للهوية أو اهتمام بالنوعيّة، من الذين لا تعنيهم فكرةُ الاندماج التي تتوخاها بلدان المنظومة الأوربية في سياساتها وفي توقعاتها الخاطئة. فجلُّ اهتمام أصحاب الفكر المنحرف من المتسللين ما بين اللاجئين االفارّين من بلدانهم التعبانة، غزوةُ بلد الكفّار والعيش فيها أفرادًا وجماعاتٍ على هامش المجتمع ما طابَ لهم، ليكونوا عالّة على دافعي الضرائب وحكوماتهم المهزوزة، اقتناصًا لأية فرصة سانحة للسطو على الحكم فيها متى ما زادت أعدادُهم واستقووا بمواردهم البشرية التي لا تعنى بالنوعية بل بالعدد والكمية. مثل هذه السياسات المتراخية أحيانًا، وغير المتزنة في أخرى كثيرة، من جانب حكومات بعض الأقطار الأوربية والأحزاب القائمة في السلطة، بحاجة دائمة وجادّة للمراجعة والتغيير بحسب المستجدات والهواجس والأحداث، قراءةً لواقع الحال وفي مواجهة ما يصدر من عربدات ووثائق وتغريدات ومروّجات منشورة، السمعية منها والبصرية والمرئية، عن هذه التنظيمات الإرهابية الدولية. وهذا ما يدعو ساسة وعقلاء هذه البلدان المتحضّرة لإجراء مراجعة شاملة لسياساتها وخططها وبرامجها بهدف احتواء الضعيف منها واتخاذ خطوات جادّة تهتمّ بمصالح شعوبها قبل أي شيء. صحيحٌ أنّ الأسس القائمة عليها القارة العجوز، تقليدية وقوية وراسخة. لكنّ الأساس الذي لا يُصانُ بعناية في كلّ موجة مطر قوية، وبردٍ قارسٍ، وعاصفة شديدة، يمكن أن يتآكلَ بفعل عوامل التعرية العولمية القائمة والتجريف السياسيّ والاجتماعيّ الذي بإمكانه تقويض أكبر ممالك العالم، مهما تجبّرت واعتدّت وتفاخرت. فإذا كانت بلدان هذه القارة الجميلة ترى في بنائها الديمقراطي "العلماني"، طريقًا آمنًا لمستقبل أجيالها من دون مراعاة ما يُحاك ضدّ تركيبتها وبنيتها المجتمعية من دسائس من قبل الطامعين من أصحاب الأفكار المنحرفة، فهي مخطئة وعليها أن تدرك مدى خطورة هذه كلها. أمّا ما تراه من جانبٍ واحد، من مساهمتها المميزة في تغيير الزمن وتسريع العلوم والتكنلوجيا وفرض العولمة وقوانينها وفق مقاساتها، فهذه جميعًا تصبّ اليوم في خانة مستقبلٍ غامض مشكوك فيه وسط ضبابٍ كثيفٍ أحالَ فكرة سعادتها التقليدية إلى كابوس أمنيّ لن تتوقف آثارُه عند حدود ما تشهدُه من عمليات إرهابية، فحسب. وعليها أن تعي حجم هذه الاثار وتبادر إلى دراسة موجباتها الإشكالية، فتجد لها ما يوازي هذه المشاكل من حلول فاعلة لا تتقيّد بعاملَي الحرية والديمقراطية اللذين أصبحا شمّاعة تعلّق عليهما تراجعها ونهيَها عن اتخاذ ما يلزم بل ما يحتّم من إجراءات احترازية. وهذا ما يوصيها بالعودة إلى الينابيع الأولى التي أُقيمت عليها هذه الأسسُ التقليدية القوية المميَّزة. وإذا اعتقدت جزافًا، أنَّ دارَها مازالَ محتفظًا بصلابته وتماسكه، فإنّ صورتها اليوم، قد اهتزّت، وسقف دارها منذِرٌ بالسقوط فيما لم يعد شكلُها مقبولاً، كما كان بالأمس. فالمواطن الأوربي الأصيل، بدأ يعي حجم التحديات التي تنغّص حياته، وهو أيضًا مثلنا في الشرق بعض الشيء، لم يعد يشعر بالأمان وهو في العمل أو الشارع أو حتى في داره أو مصلحته. إنّ الإرهاب وأدواتِه قد تمكنوا من اختراق أبواب أوربا من أوسعها عندما رضخ الساسة فيها ومَن في الحكم، لتهديدات مصدّري الإرهاب المعروفين، ومَن على شاكلتهم بفتحهم هذه الأبواب مشرعة، بحجة تفادي صِدامِ معيّن أو حفاظًا على مصالح قومية أو آنية أو شخصية. فنالوا بذلك، موقفًا معارضًا بعض الشيء، بل متشدّدًا أحيانًا، من شرائح في مجتمعاتهم الشعبوية التي زاد قلقُها على مصيرها وحياتها وهويتها الوطنية المهدّدة بفعل مثل هذه التنازلات غير المبرّرة. ومن المؤسف، صدور دعوات من مستويات سياسية عالية في السلطة، تستجدي مواطني بلدانها بعدم النزوع إلى شكوك بمَن تحوم حولهم رعاية الإرهاب وتمويله وتصديره، بالرغم من وضوح الرؤية وبروز الوقائع. اليوم تقف أوربا أمام تحديات كبيرة، زادت من همومها في مواجهتها، بعد أن تنوعت وتشعبت وأخذت مسارًا ممنهجًا بدقة وعناية. فالهجمة الشرسة التي تضربها بين فترة وأخرى في عقر دارها، في المجال الأمنيّ قبل كلّ شيء، قد دقّت في دوائرها ومؤسساتها المتطورة ناقوسَ الخطر. وهي اليوم في موقف لا يُحسد عليه، بالرغم من التعاطف الدولي الذي يحيطُ بها، حتى من الدول والزعامات التي تخرّجت منها مدارس الإرهاب، تمويلاً وتدريبًا وعقيدة. فعندما يتمكن السارق من دخول بيت آمن ويعبث بممتلكات صاحب الدار ويسرق ويغتصب ويقتل ويختفي من دون رقيب ولا حسيب، فهذه قمّة الضعف وبداية الانحدار نحو الهاوية. في تفكير الغرب المتقدّم الراسخ على مبادئ إنسانية وأخلاقية تسامحية تربى عليها منذ قرون بفعل التربية المسيحية التقليدية، هناك نوع من اللامبالاة في الأحداث الدراماتيكية التي تحلّ عليها بين فترة وأخرى. أو لنقل بعبارة أكثر دقة، هناك تقليلٌ من وطأة ما يحصل لها بفعل الاختراقات الأمنية، بالرغم من جسامة الفعل والحصيلة وما يترتب على ذلك من هزّة إعلامية تُجنّد لها مؤسسات وتُعقد مؤتمرات واجتماعات وتتوالى لقاءات لكشف الدليل والوقوف على المستور. فالزعاماتُ ومعها دوائرُ دولهم الاستخباراتية، تنفعل وتنشط وتغضبُ حينًا، ثمّ تهدأ مع هدوء العاصفة. ربما، تلكم هي من بركات الخالق الذي منح البشر نعمة النسيان والعفو عمّا سلف! لقد نعمت أوربا عمومًا، بشيء كبيرٍ من الاستقرار النسبي لسنوات طوال، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، حيث تعمّرت بعد دمار رهيب، وسادها الرفاه والسعادة بفعل دفع عجلتها الاقتصادية وتطورّ إنتاجها وإصدار قوانين تمتثل لدساتير تأخذ في نظرها القيم الإنسانية العليا في أقصى تجلياتها. وفي السنوات الأخيرة، زادت أزماتُها الاقتصادية، كما ارتفعت فيها أعمال الإرهاب والتخريب والجريمة، بفعل سياسات غير متزنة في معالجة الثغرات والمشاكل. فساهمت بطريقة أو بأخرى، ببروز تنظيمات متطرفة، كان الغربُ نفسُه مسؤولاً عن إخراجها إلى مواقع العمل الحقليّ وإلى تزايدها وتنوعها، ما أدخلَها في حالة إنذار وطوارئ يحتّم عليها اتخاذ المزيد من الحذر ووسائل الدفاع لمواجهة هذه الأدوات الغريبة عنها. لكن، تبقى الأسس التي بفضلها ما تزال هذه الدول تقود شعوبَها بامتياز حضاري، هي الأساس في تواصل تقدّمها وحضارتها ورسم أبعاد خططها للحياة والسيادة بالرغم من كلّ التحديات والهموم. وهذا هو الأساس في نهاية المطاف. فالديمقراطية التي تنعم بها، على اختلاف خلفياتها ومبادئها وتطبيقاتها، قد مكنتها من تطوّر أنظمتها وتحديث علومها وتقنياتها المتسارعة باستمرار، في كل يوم بل في كلّ ساعة، ومنها تبنّيها سياسة العولمة التي أرادت بها فتح الحدود على مصاريعها وجعل العالم مطواعًا سهلَ الانقياد والمرور في تنقل البشر والمادة والمنتج من مجمل هذه جميعًا. بالمقابل، هذا التطور قد جلب نتائج لم تكن في الحسبان، عندما ازدادت كثبان الصحارى الفكرية المترعة بضباب كثيف زاد من وطأة جمال الرؤية ومديات التفاعل المجتمعي والإنساني التي ارتبكت أسسها هي الأخرى، بسبب تنامي تراجع أركانه، التي من بين أسبابها، فساد الساسة وسطوة دكتاتوريات الجمهوريات والممالك والإمارات التي أعاقت فكرة تطوير ما هو متخلّف. هناك مَن يعتقد، أنَّ بداية الانحدار في سلّم الاستقرار الغربيّ في عمومه، قد أشرتها أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. وحينها دخلت أوربا مثل أمريكا، في غرفة عمليات بالسهر الاضطراري على مصالحها وكياناتها وحكوماتها ومؤسساتها ومواطنيها على السواء. لكنّها لم تستطع قطّ، إحكام قبضتها على مقاليد الأمور، بالرغم من اتساع رقعة المراقبة عندها وتنوّع أدواتها وزيادة ملاكاتها الاستخباراتية وميزانياتها الوطنية في مجال الأمن والمراقبة. والسبب واضح لا غبارَ عليه، وهو تطوّر الأدوات التي يستخدمها العدوّ اللدود الجديد، الإرهاب الدوليّ المتنامي، ردًّا على سياسات غير مقبولة أو على أحقاد دفينة لما اقترفه الغرب إزاء دولٍ سبق له استعمارها واستغلالها ونهب مواردها وسلب حرياتها وحقوق شعوبها لسنوات. أخيرًا، عندما يتساءل العاقل، هل يمكن إعادة عقارب الساعة إلى ما كانت عليه بالأمس؟ هنا، لا يمكن أن نسمع ما هو إيجابيّ في الموضوع، لأنّ إعادة الماضي غير ممكن من جميع النواحي، التاريخية والجغرافية والطبيعية والاجتماعية وحتى الجيوسياسية. وهذا يعني أيضًا، أنّ الفكرة بإعادة البناء، مهما دخلتها جوانب تطويرية واحترازية، فهي تبقى في ضمير المحتمل غير قابلة التطبيق من منطلق التكامل والنجاح، مهما بلغت الجهود والتخصيصات والمروّجات. |