المستغربات في حديث الأستاذ "هادي خماس" عن محاولة "عارف عبدالرزاق" الإنقلابية الأولى (15/أيلول-سبتمبر/1965)

تمــهيـــــــــد
بعد أن بدا لي بعد أن أدلى السيد "صبحي عبدالحميد" بدلوه عن تلك المفارقات التي صادفت هذه المحاولة الإنقلابية الغريبة في جملة تفاصيلها، فقد غدا الموضوع شائكاً ومعقداً... فكان لا بد لي من التوجّه إلى السيد "العقيد الركن المتقاعد هادي خَمّاس" -مدير الإستخبارات العسكرية منذ مطلع عام 1964 ولغاية يوم المحاولة الإنقلابية في منتصف (أيلول/سبتمبر/1965) وقتما كان أحد قادة "الكتلة القومية" وعضواً في "المجلس الوطني لقيادة الثورة"، ومن أبرز صُنّاع في أتون ذلك الحدث، فضلاً عن كونه أحد المخططين والأقرب لشخص السيد "عارف عبدالرزاق" خلال ساعات تلك المحاولة والمشرف الرئيس على تنفيذها.
قدمتُ للسيد "أبي عماد" خلال عام (1997) العديد من الأسئلة والإستفسارات عن كيفية الإخفاق في هذه المحاولة الإنقلابية، وقد زودني -مشكوراً- بـ(22) صفحة مكتوبة بخط يده الكريمة على شكل إجابات بشأن (32) إستفساراً مكتوباً وجّهتُها إلى سيادته حول العلاقات التي سادت بين الرئيس "عبدالسلام عارف" والكتلة القومية، وعن كيفية التفكير للإنقلاب والتخطيط له وأسباب فشله.
وفيما يأتي ملخّص لما أوضحه:-
((كان التفكير قائماً نحو ضرورة تغيير نظام حكم الرئيس "عبدالسلام عارف" قبل أن يتسنّم "عارف عبدالرزاق" رئاسة الوزراء أوائل (أيلول1965)، ولكنا قرّرنا إستغلال سفر رئيس الجمهورية إلى المغرب يوم (12أيلول1965) للتعجيل بالعملية.
أما "عارف عبدالرزاق" نفسه، فلم يكن على عُجالة للتغيير المرغوب قبل سفر "عبدالسلام عارف" أو أثناءَه قبل أن يُسلِّمَ لــ"عارف" قائمة بعدد من ضباط "الكتلة القومية" طالباً منه إصدار أمر نقلهم إلى تشكيلات عسكرية خارج "بغداد" خلال فترة غيابه عن العراق!!!
ولمّا إستشار "عارف عبدالرزاق" قادة الكتلة، فإنهم ضغطوا عليه بضرورة عدم نقلهم، مُبيّنين له أن هذا لا يعدو كونه ((سوء نيّة)) من لدن "عبدالسلام عارف"، وأشاروا عليه بالحركة الإنقلابية.... فإضطرّ للإستجابة لرأيهم.
أنا شخصياً كنتُ مُؤمِناً بضرورة إقصاء "عبدالسلام" من رئاسة الجمهورية لأكثر من عامل، قد يكون أهمها:-
أولاً- إتجاهه نحو الفردية، وإبتعاده عن الحكم الجماعي.
ثانياً- كونه وحدوياً بالكلام وليس بالأفعال.
ثالثاً- إتّباعه سياسة ((فَرِّقْ... تَسُدْ)) بين الضباط، إضافة إلى تشكيله كتلاً سياسية داخل القوات المسلحة.
إلاّ أن تلك الأمور لم تجعلنا في موقف نبتغي معه مَسّ شخص "عبدالسلام" بأي سوء، وذلك وفاءً منا لعلاقات الأخوّة التي كانت قائمة بيننا منذ سنوات.
وفي يوم سفر "الرئيس" إلى "المغرب"، ولمّا علمنا بالطلب الذي أراد فرضه على "عارف عبدالرزاق" بشأن نقل بعض كبار الضباط القوميّين إلى خارج بغداد، من أولئك الذين كانوا في الحقيقة دعامة للنظام القائم ولشخص الرئيس نفسه، فقد توافد معظم قادة "الكتلة القومية" على دار"عارف عبدالرزاق" بحي الضباط "زَيّونَة" لغرض التداول في موضوع تغيير الحكم.
تم الإتفاق على الخطة، وبدأنا بالإستحضار لتنفيذها، فإستدعى "عارف عبدالرزاق" العميد "سعيد صليبي" إلى مكتبه في مبنى مجلس
الوزراء مع مغيب شمس (14أيلول1965)ó ليبلغه عزمه على البدء بعملية إنقلابية، طالباً منه التعاون معه في هذا المجال.
وافق "سعيد" على ذلك من حيث المبدأ، ولكنه لمّــــا علم بمشاركة كل من "العقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي، والمقدم الركن فاروق صبري، والرائد عبدالأمير الرُبَيْعي" ضمن مجموعة الضباط القائمين بها، فقد عدل عن رأيه لخشيته منهم وإعتقاده بأنهم سيقضون عليه إذا نجحت الحركة... فما كان منه إلاّ أن ترك مبنى مجلس الوزراء متوجهاً إلى مكتبه في آمرية الإنضباط العسكري في ثكنة وزارة الدفاع، بغية التنسيق مع الوحدات العسكرية المُوالية له، وكذلك مع وحدات الحرس الجمهوري في عموم "بغداد" لمقاومة الحركة إذا ما إندلعت.
كانت الخطة التي إقترحها "العقيد الركن صبحي عبدالحميد" كما كتبها لك... وقد إرتأى "عارف عبدالرزاق" إضافة لذلك، أن يكون هناك تحليق إستعراضي لطائرات مقاتلة وقاصفات نفاثة في سماء "بغداد" صباح اليوم المذكور.
إلاّ أن الخطة أُبدِلَتْ، إذْ تمَّ تقديم موعد البدء بالحركة إلى منتصف ليلة (14/15أيلول) من جهة، وأن تتمركز الدبابات التي تأتي من معسكر "أبي غريب" في مواقع محددة، وفي مقدمتها المنطقة المحيطة بمبنى الإذاعة والتلفزيون في "الصالحية"، وذلك قبل أن يذهب "عارف" لإلقاء البيان المُعَدّ صباح (15أيلول).. ولم يُعلَم لحد الآن من الذي كان في حقيقة أمر صاحب التبديل.
ووقتما كنّا متواجدين في مبنى مجلس الوزراء، وبعد بضع ساعات من المباشرة بالتنفيذ مساء (14أيلول)، إتصل بي هاتفياً (ضابط برتبة ملازم أول) ليقول لي:- أن "الرائد عبدالأمير الرُبَيْعي" قد فشل في السيطرة على معسكر "أبي غريب".
ومن دون أن أخوض في التفاصيل، فقد توالت الأحداث في تلك الليلة وتسارعت، مؤدّية إلى فشل المحاولة، ممّا قادنا إلى التفكير
بمغادرة العراق، حيث لم يكن أمامنا إلاّ السفر إلى "مصر".
وما يجدر ذكره في هذا الشأن أن "عارف عبدالرزاق" لم يكن قد قرّر ترك العراق بالنصيحة التي قدّمها "سعيد صليبي" فحسب، بل أن السيد "عبدالستار علي الحسين" -وزير العدل الذي إستقال من منصبه إثر الأزمة الوزارية التي وقعت خلال (تموز1965)- قد أشار على "عارف" بإتباع هذا المسلك.
ولمّا علمتُ بالقرار، حضرتُ في مسكن "عارف" بحي الضباط "زَيُّونَة"، حيث كان هناك كل من "العقيد الركن عرفان عبدالقادر، المقدم الركن رشيد محسن، والمقدم الركن فاروق صبري، والرائد عبدالأمير الرُبَيْعي"، فتحرّكنا معاً إلى "مطار الرشيد العسكري"، قبل أن تقلّـــنا طائرة نقل عسكرية ضخمة بقيادة الرائد "طه أحمد" إلى "القاهرة" مباشرة بدون توقف.
وفي الجو، وعندما أَخبَرَ قائد الطائرة "مطار القاهرة الدولي" أن طائرته تحمل رئيس وزراء العراق مصحوباً بعدد من الضباط، فقد سُمِحَ بهبوطها رسميّاً، حيث إستَقبَلَنا مسؤول من "مكتب اللاجئين" وآخر من "المخابرات المصرية"، قبل أن يرافقانا إلى أحد فنادق "القاهرة" بشكل مؤقّت، إذْ تقرّر بعد أيام أن تُستَؤْجَر لنا شقق نسكن فيها، بعد أن خصّصت الحكومة المصرية رواتب محدودة لكل منا.
كان إرتباطنا طيلة إقامتنا في العاصمة المصرية بالعقيد "حسن رأفت" المشرف على "مكتب اللاجئين" في رئاسة الجمهورية، وهو الذي زوّدنا ببطاقات اللاجئين السياسيين، وراتب شهري لا يتجاوز (110) جنيهات مصرية، والتي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع.
وهنا ينبغي أن أذكر، أن وصولنا المفاجئ إلى "القاهرة" كان أمراً مُحرجاً للحكومة المصرية التي كانت تلتزم بعلاقات أخوية مع العراق وأواصر حميمة بين الرئيسَين "جمال عبدالناصر وعبدالسلام عارف".