درج السياسيون وكبار موظفي الدولة وقدامى الصحفيين ورجال الأعمال وغيرهم من ذوي النفوذ على كتابة مذكراتهم الشخصية بعد تقاعدهم عن العمل. وتضم هذه المذكرات عادة الكثير من الأسرار، والحقائق، والأفكار، التي بقيت طي الكتمان لعقود طويلة. ولا يجد المؤرخون مادة أولى بالعناية ، ولا روايات أحق بالحرص، منها. وكانت مصلحة مصافي النفط الحكومية في مقدمة المؤسسات التي عنيت بها الدولة العراقية بعد تزايد الطلب على المشتقات النفطية. ودشنت ذلك بوحدات تصفية صغيرة أنشأتها الشركات النفطية صاحبة الامتياز آنذاك. إلا أنها سعت بعد ذلك لإنشاء مصفاة كبيرة، تتجاوز حاجز العشرة آلاف برميل، الذي كان سمة لمصافي تلك الحقبة، وكان ذلك في مطلع الخمسينات في منطقة الدورة جنوب بغداد. وجرت إحالة المشروع على شركة كيلوك الأميركية الشهيرة، ذات الباع الطويل في هذا المجال. ثم شرعت في مد خط أنبوب 8 عقدة من خانقين لتغذيته بالنفط الخام. وكان من أوائل المهندسين العراقيين الذين عملوا في المشروع الأستاذ مشعل حمودات بعد تخرجه من جامعة ألينوي الأميركية عام 1953 بدرجة ماجستير في هندسة النفط. ثم واصل العمل في المصفاة بعد اكتمال إنشائها لغاية أواخرعام 1958. وشهدت هذه الحقبة انسحاب الخبراء الأميركيين الذين كانوا يتولون عملية التشغيل إثر خلاف مع الحكومة العراقية. ولم تتوقف المصفاة عن العمل كما كان متوقعاً، إذ تولى المهندسون والفنيون العراقيون، ومنهم الأستاذ مشعل، المهمة بنجاح. وكانت تلك البداية الحقيقية لتعريق الصناعة النفطية في البلاد.ولم تتح الظروف للأستاذ مشعل حمودات (مواليد الموصل 1929) لمواصلة عمله في المصفاة بعد هذه التجربة الرائدة، فقد نشأت مشكلة أخرى، تمثلت باعتذار شركة نفط خانقين عن الاستمرار في إدارة وتشغيل الحقول النفطية هناك عام 1958. فأسندت إدارتها إلى كادر وطني برئاسة المهندس المصري الدكتور مراد البشلاوي، وعين هو مهندساً فيها. وفي العام الذي يليه أصبح مشعل حمودات مديراً للحقول بعد عودة البشلاوي إلى بلاده.ولم يلبث الأستاذ أن ارتقى في سلم المناصب بعد تأسيس وزارة النفط العراقية عام 1960. فعمل مديراً للهندسة والإنتاج لحقول النفط في ديوان الوزارة عام 1962. ثم رقي إلى منصب المدير العام لمصلحة الغاز غداة تأسيسها عام 1964، وكان بذلك أول مدير عام للمصلحة. وفي عهده مد خط أنبوب الغاز الجاف من كركوك إلى محطات الكهرباء، وجرت إحالة مناقصة إنشاء معمل غاز التاجي على شركة سبي الفرنسية. ثم وقع اختيار وزارة النفط عليه عام 1967 ليكون مديراً عاماً لمصلحة مصافي النفط الحكومية، بعد انتهاء ولاية الأستاذ محمد جابر حسن، ولكنه نحي عنه بعد انقلاب 17 تموز 1968. وقد شهد عهده اكتمال العمل في مصفاة الدهون رقم 2 في الدورة، وافتتاحه من قبل الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف في حزيران من ذلك العام. ويروي الأستاذ سعد الله الفتحي (رئيس المؤسسة العامة لتصفية النفط وصناعة الغاز في الثمانينات) أن دور الأستاذ مشعل لم يقتصر على تطوير الصناعة النفطية في العراق فحسب وإنما في دفع المهندسين الشبان للعمل في هذا السبيل. وذكر أنه يفتخر بالعمل تحت قيادته في تلك الحقبة وهو الذي تنبأ له بأن يصبح في يوم ما مديراً عاماً للمصافي وهو مايزال مهندساً مبتدئاً. وفي عهده انتقلت عائدية معمل استخلاص الكبريت في كركوك من وزارة الصناعة إلى مصلحة مصافي النفط بطلب من المرحوم طاهر يحيى رئيس الوزراء يومئذٍ، بعد تعثر العمل فيه. وحينما عاد الأستاذ مشعل إلى ديوان وزارة النفط شغل مناصب عديدة، فكان مديراً لشؤون النفط العام، ووكيلاً لوزارة النفط بالوكالة. ثم عهد إليه بمنصب المدير العام لمصلحة توزيع المنتجات النفطية (1969-1970)، وأعفي منه بسبب رفضه الانتماء لحزب البعث، وأحيل على التقاعد لعدة شهور. ولكن مرسوماً آخر صدر بإعادته إلى الوظيفة نهاية عام 1970، ليبقى في ديوان الوزارة أحد عشر عاماً كاملة، يمارس خلالها وظائف متعددة، ويسهم في عمل لجان كثيرة، مهمتها رسم السياسة النفطية في البلاد. وفي عام 1981 صدر مرسوم يقضي بتعيينه مديراً عاماً للتدريب النفطي. ولكن لعنة البعث كانت تلاحقه على الدوام. فصدر الأمر بإحالته على التقاعد نهائياً عام 1983 بعد أن قرر مجلس قيادة الثورة آنذاك أن يكون جميع المدراء العامين في الدولة من الكادر المتقدم في الحزب.وهكذا أسدل الستار على 30 عاماً من العمل الدؤوب الذي عرف به الأستاذ مشعل، طوال خدمته في القطاع النفطي، وكان قاب قوسين فيه أو أدنى من تولي حقيبة وزارة النفط عام 1965. وكان على صلة وثيقة بجميع الرؤوساء، والوزراء، ووكلاء الوزارات، والمدراء العامين الذين عمل معهم في تلك الحقبة. وفي مذكراته التي صدرت عام 2013 عن دار الرسل في بيروت بعنوان "مذكرات مشعل حمودات ومواقفه مع الساسة رجال الدولة" الكثير من الأخبار والروايات والأحاديث التي ترسخت في ذهنه خلال تلك الحقبة. وهي مادة ثرية لا يستغني عنها الباحث أو المؤرخ، أو العامل في صناعة النفط. ويجد فيها القارئ العادي متعة الاطلاع على واحد من أهم ملفات تاريخ العراق الحديث على الاطلاق.
|