تهميش العقول وتثبيت العجول

   

    لم تبخل بطون العراقيات في رفد الإنسانية بالعقول التي كان لها السبق برقي الحضارات، فمنذ بداية تحضر الإنسان العراقي في أرضه، دأب على اكتشاف الجديد واختراع مايستلزم مفردات حياته، بدءًا من أدوات معيشته في استيطانه الأرض، الى أدوات صيد مايتغذى عليه، مرورا بما يدافع به عن نفسه أمام الوحوش والكواسر، وما يدرأ به أخطار الأعداء من بني جنسه. ولم يكتفِ بهذا، فبعد أن ضاقت به وسائل التعبير عما يختلج في فكره ومخيلته، راح يبتكر أساليب الكتابة والرسوم، ليحمّلها مسؤولية نشر ما يريد البوح به من مشاعر وأحاسيس وآمال كان قد تطلع بها لمستقبله، فأجاد بما صنعت يداه، فهاهي صنائعه شاخصة وهي تحت الأرض، تشهد على تقدمه وتحضره حقبة إثر حقبة، فغنية هي بلاد وادي الرافدين بثرواتها، وعطاءة بأجناس الخيرات التي تغدقها على بقاع المعمورة، ولم يقتصر نوالها على الكنوز المادية فحسب، بل كان -ومازال- النوال والعطاء بأغلى قيمه على الأرض، ذلك هو الإنسان. والحديث عن ماضي هذه الرقعة الجغرافية من الأرض يطول ويعرض ويمتد موغلا بعقود وقرون بعيدة، من المفترض أن نضعها نصب أعيننا في حاضرنا، كي تكون أساسنا لبناء مستقبل لم يكن بنو آدم من الأقوام الأخرى بأحسن من أجدادنا، يوم وصلوا الى ماهم عليه وسبقونا الى التحضر والعيش الهانئ بظل ماتطرحه عقولهم في خدمة البشرية.  وما لايخفى على أحد، أن سر تأخرنا عن هؤلاء لم يكن شحة العقول، بل ضعة النفوس وكثرة أمراضها وأدرانها، واعتمادها الضغائن والأحقاد في التعامل مع النظير والغريب، والقريب والبعيد، والصديق والعدو، وهذا ماورثناه من أجدادنا في عالمنا الشرقي عامة والعربي على وجه الخصوص. فبنية عقولنا -نحن العراقيين- سليمة 100% إلا أن تكوينة نفوسنا ضاقت وانحسرت فيما لافائدة ترجى منه، ولاتقدما نحققه من التمسك به، ولاربحا ولاريعا ولانفعا نجني من اتخاذنا إياه نهجا في حياتنا. 

   وفي أٌقرب مثال عما أطنبت بتناوله في سطوري، هو الراحلة عنا في 31 آذار من العام المنصرم، المهندسة المعمارية بنت البلد زها حديد، إذ كتبت عنها الكثير من وسائل الإعلام في حياتها، كما تناولت وفاتها كل الجهات الإعلامية في العالم، ولم تقف شهرتها عند وفاتها، بل راح صيتها يصدح بكل البلدان حتى اليوم، بعد أن تركت فيها زها بصمتها المعمارية المميزة. رحلت زها ولم ينصفها وطنها الأم العراق، بحكوماته السابقة المتمثلة بحكم البعث ورأسه المقبور، وكذلك حكوماته اللاحقة التي تسنمت قيادته بعد عام 2003. رحلت زها وسيرحل غيرها وفي قلوبهم غصة عالقة، لانهم لم يحققوا أمنيتهم في خدمة بلدهم، فقد حال دونهم ودون العمل في عراقهم، انشغال حاكميه بسياسات لعق الجراح، او التفاتهم الى مصالحهم الحزبية والفئوية، علاوة على مآربهم الشخصية والنفعية.

    الأزمة في عراقنا إذن، أزمة نفوس لاأزمة عقول، فقد لاقى فيه العلماء والمثقفون تهميشا متعمدا، وقد أجبرت فيه عقول على الانزواء جانبا، من جراء تسلط نفوس ضيقة الأفق، تسنمت دفة القيادة في أركان مهمة عديدة في البلاد، وقد انتبذت هذي العقول بنفسها مكانا قصيا، بعد أن صارت الساحة لمن لاعقول لهم ولانفوس سليمة ينظرون من خلالها الى العلم والعلماء. ورحم الله شاعرنا سعد محمد الحسن فقد قال في أبوذيته:

ضماير ماتعرت من عرينه

ومثل سيل المسودن من عرينه

الأسد حگه يتكتر من عرينه

لگه الجربوع يردح بالثنيه

 

aliali6212g@gmail.com