عندما يبوح حمام الدوح

يسكنُ الحمام زاجلا كان أو أورفليلاً أو هنديا أبيضاً ، يسكن المسافات الزُرق لسماءٍ طويلة عريضة وهي تقف بشموخٍ أطيافها الزرق فوق سطوح البيوت ، وربما هذا الطائر النبيل وحدهُ من يشعرنا بجمال ما تحتوي الرسائل من كلمات والحاجة الى السلام وقت الحروب ، لهذا كان بيكاسو يقول : كنتُ أفكر أن ارجم الحروب بالورد لتموت ، لكني وجدتُ الحمامة البيضاء أكثر تأثيرا .في الناصرية من يربي الطيور على سطح بيته دون أن يبيع أو يشتري كمتاجرة ومهنة ولكنه يصيد وينصاد ومنهم اخي ( رحمه الله ) الذي كان لديه برجا وخمسين طير حمام ، ومنهُ سمعت بكلمة ( حرب ) لأول مرة وكان المطيرجية يلفظوها ( حُرُبْ ) عندما يصبح صيد الحمام بينهم مباحا ولاتعود الحمامة لصاحبها الذي صُيدتْ منه إلا بثمن أو مقابل حمامة أخرى يختارها الصائد بحريته ، فيما يسمى من يبيعها ويشترها بمحل خاص فيها بمنطقة الصفاة يسمى ( الجمباز ) .وهي ذات المفردة التي كنا نطلقها على لاعب الجمناستك. 
أما في الصلة بين الغرام والحمام فكنت قد عرفتها عبر عبارة حمام الدوح والتي تعني ظلال الشجرة الخضراء الوارفة فيكون الجمع بينهما أن يكون الحمام والظل والخضرة هو في خيال العاشقين اريكة الانتظار والمرأة الساحرة.وهذا ابقى الحمام في مخيلتي صلة الوصل بالسماء البعيدة غبر نافذة القلب والامنية وتذكر وجه أخي الذي حملهً نعش الرحيل الى الديار البعيدة خلف ابعد المجرات حيث كنا في طفولتنا نعتقد أن الفردوس هناك.يوم تعينت معلما في قرية تقع في العمق المائي لأهوار الجبايش كنت أرى الحَمامْ في فضاء الزرقة اليابسة ، وكنت أسأل إن كان هذا الحمام قادما من الجبايش حيث اعتادت المدن ان تكون اكثر من القرى رغبة في تربية طير الحمام ، وقلما رأيت بيتا من بيوت الحمام من يربي الحمام ويجنيه : فيكون الرد أن الحمام يأتي من امكنة اخرى .
ومرة اتى احد المعلمين ولأنه كان عاشقا ويحتاج ليرى حمامة بيضاء من حمامات الدوح تذكره بمن يهوى فقد بنى برجا صغيراً قرب المدرسة وجنى طيورا اغلبها من الحمام الهندي الذي كان مميزا في جمال ذيله حيث ينفشه فيبدو مثل راقصة البالية وكان لا تطير في معظم الاحيان لثقله ، ولكن المشرف التربوي في اول زيارة له أنتبه الى حمام الدوح الابيض وطلب من مدير المدرسة تهديم البرج ونقل الحمام الى خارج المدرسة.
لهذا المعلم أهدى حماته البيض الي بيت عامل الخدمة شغاتي ليجعل ولده مكسيم يعتني بها ولتسجل القرية التي تقع فيها مدرستنا اسم أول بيت فيها يربي الحمام ، فصارت تلك الحمامات الجميلة والناصعة البياض مصدر تغزل والهام لبنات القرية عندما يمرن مع قطعان الجواميس أمام بيت شغاتي ويشاهدن الحمامات مثل ضوء الثلج السيبيري يمنحن العيون مقاربة بمشية الدلال والغنج عند الانوثة العاشقة.
ذهب حمام الدوح بعيدا بالنسبة إليّْ . وظل بديل عنه دوح الحنين والخواطر الى المدينة السومرية والقرية البعيدة في عمق الاهوار التي لم تطل سعادتها مع عودة الماء والطيور.
والآن بدأ العطش من جديد ينشر ذكريات دمعة الامس وحتما الارض التي قصبها يابس وجواميسها بيعت للقصابين الحمام ابيض في سماءها.......!