ليس من واجب هذه المقالة أن تقف مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في عزمه على منع دخول مواطنين عرب وإيرانيين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لثلاثة شهور، ولا مع القاضي الذي أبطل أمرا لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ولا مع القضاة الثلاثة أعضاء محكمة استئناف كاليفورنيا الذين أيدوا حكم الإبطال. فقد يكون القاضي عادلا ومستقلا في قراراه، وقد يكون قراره، كما اتهمه ترمب نفسه، مُسيسا، وقد يكون هو نفسُه منخرطا في الصراع السياسي بين ترمب شخصيا والجمهوريين وبين الديمقراطيين ومن يقف معهم ويتأثر بموافقهم فلم يستطع الوقوف محايدا بين الفريقين المتصارعين. ولكن أيا كانت التفسيرات والخلافات حول ما جرى، فإن الذي حدث ليس هو فقط إهانة من الوزن الثقيل يتلقاها رئيس أقوى دولة في العالم من حاكم صغير في ولاية بعيدة، بل هو إشكالية إنسانية شاملة تتلخص في صعوبة ضمان عدالة القاضي، وعدم تأثره بالصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية. فأين الخلل؟ وهل العيب في الوسائل الرقابية، أم في صلابة القنوانين ووضوحها، أم في المناعة الأخلاقية التي يُفترض توفرُها فيمن يتولى الفصل في أمور الحياة، وتحقيق العدالة التي ينشدها الجميع. والذي يقيم في أمريكا يدرك عدم صدق مقولة أن النظام الأمريكي نقيٌ خالص من العيوب، وأن القانون فيه فوق الجميع، وفوق أي اعتبار. ففي أمريكا مراكز قوى متصارعة ما زال يجري فيها، على أرض الواقع، تمييز حقيقي بين ولاية وولاية، وبين نائب وآخر، وشيخ وشيخ في الكونغرس وشركة وشركة أخرى. ففي أمريكا قد تجد شخصا واحدا في مجلس النواب أو الشيوخ، أو خارج السلطتين التنفيذية والتشريعية، أهم وأقوى وأشد تأثيرا من الرئيس نفسه، ومن عشرات النواب والشيوخ. ورغم أن قرار القاضي جاء مستندا إلى ثغرة قانونية تسمح للقضاء في إحدى الولايات بمنع تنفيذ قرار فيدرالي، وتعميم المنع على أمريكا كلها إذا ما رأى أن القرار الفيدرالي يهدد مصالح تلك الولاية، ويضر بمواطنيها، إلا أن قوة قرار قاضي واشنطن الذي أبطل قرار الرئيس متأتية، أو مُسندة من قوة نفوذ الحزب الديمقراطي في ولايات أخرى. وقد تبينت حماسة الديمقراطيين لقرار القاضي الذي أهان الرئيس الجمهوري في سرعة وشدة فرح الحاكم (الديمقراطي) لولاية واشنطن جي روير إنسلي وحرارة تشفيه بخصمه العنيد ترمب، ولقاءاته العلنية مع مسلمي الولاية للتنديد بـ (عداء) الرئيس للإسلام والمسلمين. كما بدا ذلك واضحا لكل ذي عين بصيرة في تأييد محكمة استئناف الولاية (الديمقراطية) العريقة، كاليفورنيا، لقرار الوقف، وظهور إشارات عديدة تؤكد احتمال أن تتحول المسألة إلى حرب شاملة بين الرئيس ترمب وبين القضاء الأمريكي، ومن ورائه الحزبُ الديمقراطي، وقوى عديدة أخرى تعارض ترمب الذي أثار مخاوفها، والذي تتوقع منه إضرارا بمصالحها ونفوذها، بل تهديدا لوجودها ذاته، ومنها لوبيات متنفذة قوية تجرأ ترامب على محاربتها وتقويض عملها بمنعه المسؤولين الفيدراليين من العمل في أحدها قبل مضي سنوات على ترك الخدمة في الحكومة. إضافة إلى اشمئزاز اللوبي الإسرائيلي وجمعيات المتدينين اليهود الأمريكيين منه، ومن معارضته (العملية)، وليست (اللفظية)، لوجود المستوطنات في القدس المحتلة والصفة الغربية، وتراجعه عن وعده بنقل سفارة أمريكا إلى القدس. وقد ظهرت تلك الكراهية في خروج مراكز قوى وكنائس يهودية عديدة عن صمتها، والتظاهر ضد قراره الخاص بمنع المسلمين من دخول أمريكا. بل إن كنائس يهودية فتحت أبوابها لمسلمين للصلاة فيها، نكاية به وزيادة في ال÷انة والتحقير والتحريض. ولكن ترمب أثبت أنه ليس ذلك (الأهبل) كما يظن كثيرون. فقد أدرك عمق الهوة التي تنتظره لو عمد إلى التصعيد السياسي والقانوني مع قاضي ولاية واشنطن، ومع محكمة اسائناف سان فرنسسكو، فاختار الصمت والبحث عن وسائل تنفيذية أخرى لمنع دخول مواطني ست دول عربية وإيران إلى أمريكا لا يحق للقضاء أن يتدخل في منعها أو عرقلة تنفيذها، دون أن يدخل في حربِ تكسير عظام مع الديمقراطيين الذين ركبوا موجة (الرحمة) و(الانسانية) و(احترام) الإسلام والمسلمين، واستثمروها إلى أبعد الحدود. المهم في الموضوع لتفسير عنوان المقالة (قضاء مدحت المحمود الأمريكي) مسألتان، الأولى هي وجه الشبه العجيب بين قضاء أقوى دولة ديمقراطية في العالم وبين القضاء العراقي (المستقل) الذي تحكـَّم فيه واحدٌ اسمُه مدحت المحمود ثلاثَ عشرة سنة كان فيها الخادم الأمين لحزب الدعوة، ولشخص ولي أمره، نوري المالكي، على وجه الخصوص، الذي احتفظ بقوته وقدرته على التأثير، حتى وهو خارج السلطة، كما هو حال باراك أوباما وهيلاري كلنتون والحزب الديمقراطي الأمريكي، بالتمام والكمال. فقد جعل هذا المدحت المحمود جميع قرارات القضاء العالي مجامِلة ومنفِذة لتوجيهات المالكي وأعوانه وإخوته في حزب الدعوة وفي الائتلاف الشيعي، ولكن في ثوبٍ من العدل والحياد والاستقلال، وهو الأكثر بعدا عن العدل والحياد والاستقلال من جميع القضاة العراقيين الذين سبقوه، في جميع ما مر على العراق من حكومات وأنظمة وانقلابات، منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى زمننا الرديء هذا. ثم إذا لم تكن العدالة ومناعة القضاء ضد تأثيرات أصحاب السياسة والمصالح الخاصة، لم تتحققا في أرقى ديمقراطيات الكرة الأرضية فأين يمكن تحقيقهما إذن؟ ولماذا، بعد كل الذي جرى في أمريكا، نلوم مدحت المحود حين يصبح خروفا يجره المالكي بحبل؟؟ والثانية تتمثل في سؤال بريء، ماذا كان سيحدث لقاضٍ صغير أو كبير لو قرر مناطحة الرئاسة، والوقوف ضدها، وإهانتها، علنا، في أية دولة من دول العالم الثالث، وفي أية دولة عربية وإسلامية على وجه الخصوص؟ ألم يكن مصيرُه الخطف، أو الاعتقال، أو الاغتيال، إن لم يكن أكثر من ذلك، تلفيقا لحجة قضائية يُصدر، بناءً عليها، قضاءٌ (مستقل) كقضاء مدحت المحمود حكما بالجلد أو الذبح، أو الموت جلوسا على خازوق؟ بهذا وحده تختلف أمريكا عن اليمن والعراق ولبنان وسوريا وإيران وأفغانستان، وعن باقي بلاد أمان ... يا لللي أمان.
|