كما اشرنا في الجزء الاول من هذا البحث، ان محكمة الجنايات العراقية العليا (المختصة) قد شكلت بقانون خاص تضمن قواعد شكلية وموضوعية خاصة بها، كما ان القضاة والمدعين العامين، جرى اختيارهم وتعينهم من قبل السلطة التنفيذية خارج نطاق قانون التنظيم القضائي لعام 1979. وهي محكمة لا علاقة لها بالسلطة القضائية العراقية من حيث درجات التقاضي، لان جميع القرارات التي تصدر عنها تخضع للتدقيق من قبل هيئة تمييزية خاصة، شكلت بموجب قانون هذه المحكمة الخاص. ويخضع قضاة هذه الهيئة لنفس الشروط والمؤهلات والتبعية لاقرانهم الاخرين في المحكمة، اي ان مؤهلاتهم لا تتعدى مؤهلات خريجي كليات القانون، كما جاء بقانون المحكمة.
وبالرغم من ان السلطة القضائية العراقية اصبحت في خبر كان من حيث الاستقلال والتبعية السياسية كما سنرى، الا ان هذه المحكمة اضافت صورة مشوهه اخرى للقضاء العراقي، لما تتميز به من انحياز طائفي وعنصري وادنى درجات التاهيل للقضاة والمدعين العامين، مما عكست صورة قبيحة متناقضة مع ابسط مفاهيم العدالة و القيم الانسانية.
لم يقتصر الدور السلبي لهذه المحكمة على السلطة القضائية في العراق، وانما اصبحت السلطة القضائية بحد ذاتها عبئا ثقيلا وتساهم بشكل فعال في تجذير وتأجيج الصراع الطائفي والاثتي وبالتالي الابتعاد عن ابسط معايير الحق والانصاف، مما ادى الى تفكك المجتمع وانتشار الفتن والمؤمرات من الداخل والخارج.
لقد اصدر الحاكم المدني (بريمر) بعض القرارات الإيجابية، كتعليق العمل بعقوبة الاعدام، والقرار برقم 35 في ايلول 2003 باعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى وفصله عن السلطة التنفيذية (وزارة العدل)، وهي خطوة يتطلبها النظام الديمقراطي (الفصل بين السلطات)، الا ان ذلك لم يكن كافيا، اذا لم يقترن بخطوات ايجابية اخرى، في تلازم وتضافر جميع القوانيين والانظمة والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية (نظريا وعمليا) مع هذا الانجاز. ولاسيما ان الممارسة العملية اثبتت "ان الانظمة السياسبة بحكامها"، وان القوانين والانظمة غير كافية لوحدها في تغيير الاحوال والاوضاع، اذا لم يكن هناك حكام ومسؤولين قادرين على تحمل المسؤولية وايجاد السبل الكفيلة في تطبيقها.
ان معيار استقلالية القضاء لاتبرهنه النصوص المكتوبة في الدساتير التي قد تعكس مظاهر نظرية زائفة منفصلة تماما عن الواقع العملي، ونجد هذه الظاهرة في جميع الدساتير الدائمية والوقتية منذ نشوء الدولة العراقية وانبثاق اول دستور (القانون الاساسي) سنة 1925 ولحد الان. تلك الدساتير تنص على عبارات عن استقلالية السلطة القضائية، وكون المواطنيين سواسية اما القانون وللمحاكم حق مقاضاة جميع الافراد في الدولة بغض النظر عن مكانتهم الوظيفية والاجتماعية، بل يحق للمحاكم مقاضاة الحكومة..وغيرها من العبارات المنمقة والرنانة التي لم نجد لها اي اثر حقيقي على ارض الواقع الا بحدود ضيقة تعتمد الى حد كبير على اعتزاز القاضي باستقلاليته الذاتية وشجاعته ونزاهته لتحقيق العدالة وكان ذلك في ظل النظام الملكي(1958-1925) على وجه الخصوص.
ان تحقيق استقلالية القضاء عمليا، تحتاج الى وجود اليات فاعلة، ولا قيمة لما تنص عليها الدساتير والقوانيين من خطابات وعظية، تتمشدق بها الانظمة الثيوقراطية والتيوقراطية لتعزيز سلطتها الاستبدادية، كما حصل ويحصل في العراق، وبشكل خاص في ظل الاحتلال وحكوماته الطائفية المتعاقبة.
القانون اذا ما حقق العدل، فانه من الصعب ان يحقق العدالة التي تحتاج الى قضاء رصين ونزيه وقوي لتحقيقها. والقضاء لابد ان يعتمد على مؤسسات تنفيذية مهنية كفؤة وغير فاسدة او مسيسة او طائفية، تخضع لسلطته ورقابته لمساعدته في تحقيق العدالة، وهي اذرعه الاساسية، كمؤسسات الشرطة والامن والسجون والمعتقلات، واذا ما قطعت او شلت هذه الاذرع فان القضاء سيتحول الى قضاء معوق يرتكز كليا على السلطة التنفيذية.
ولا يمكن خلق قضاء مستقل له تلك المواصفات، الا بوجود نظام ديمقراطي ليبرالي من شأنه ان يضمن تداول السلطة سلميا، والحفاظ على ديمومته من خلال الفصل بين السلطات وبناء ركائز ودعائم قوية ومتينة لاستقلالية السلطة القضائية من الناحية العملية.
ولما كان القضاء المستقل هو سيف الحق والعدالة الصارم على رقاب الحكام المستبدين والفاسدين، فانهم يسعون بشتى الوسائل المتاحة لديهم على تهميش دوره وجعله تابعا لسلطانهم بغية ضمان اصدار القرارات المجحفة بحق خصومهم السياسيين وفي عين الوقت ضمان عدم مساسه بالحاكم المستبد واتباعه في السلطة.
ولا يوجد ادنى شك من كون النظام السياسي الحالي هو طائفي بامتياز ويسعى بكل ما أوتي من قدرة وامكانية على تكريس دكتاتورية الطائفة الواحدة من خلال الهيمنة على القضاء واستغلاله لتصفية خصومه السياسيين ، ومن البديهي، لا يستطيع القضاء ان يحافظ على استقلاليته في ظل نظام سياسي طائفي مهما تضمن الدستور والقانون من نصوص نظرية لاستقلاليته.
لقد سعت الولايات المتحدة الامريكية منذ عقود من الزمن على تكريس الطائفية السياسية في العراق من خلال استخدام البعض من تنظيمات المعارضة المتواجدة في المنافي، وكللت مساعيها باحتلال العراق وبناء عملية سياسية طائفية واثنية لتحقيق مخططاتها الجهنمية في الفوضى الخلاقة وخارطة الشرق الاوسط الجديد والاستيلاء على ثروات البلاد وتدمير القولت المسلحة العراقية. ولغرض تمرير هذا المخطط الاجرامي، لابد من جعل مؤسسات الدولة وعلى رأسها القوات المسلحة واجهزة قوى الامن الداخلي والمخابرات الجديدة مرتعا للمليشيات الطائفية والاثنية، ومهدت الطريق امام اطراف العملية السياسية التي جاءت بها بعد الاحتلال، بالمضي قدما لتنفيذ هذا المخطط الذي يحقق مصالحهم ومأربهم الفئوية والطائفية الضيقة وبالتالي نشوب الحرب الاهلية الداخلية والاقليمية لضمان تلك المصالح للولايات المتحدة الامريكية ولاطراف العملية السياسية.
وكما اشرنا، ان استقلالية القضاء عمليا لا يأتلف مطلقا مع وجود نظام سياسي طائفي استبدادي ولاسيما ان هذا النظام عمل بجد على شل اذرع القضاء، بمنح الحصانة لرجل الشرطة والامن من التعقيبات القانونية عن اية جريمة يرتكبها حتى اذا كانت خارج نطاق الخدمة وضد المدنيين، اذا لم يوافق وزير الداخلية على احالتهم الى المحاكم الجنائية المدنية المختصة، والغريب في الامر، ان قرارات الوزير بعدم الموافقة على الاحالة، تكون بمثابة البراءة من التهمة..!!(المواد 111 و112 و113 من قانون اصول المحاكمات الجزائية لقوى الامن الداخلي رقم 17 لسنة 2008). وبذلك فان رجل الشرطة والامن يتمتع بحصانة اعلى واقوى من القاضي، وان القاضي ليست لديه اي سلطة فعلية عليهم في حالة التمرد وعدم تنفيذ قراراته، بل اصبحت هذه الاجهزة مصدر رعب وليست اداة تنفيذ لتحقيق العدالة التي هي من صلب واجبات القضاء.
من البديهي، ان القاضي وعلى وجه الخصوص من يتولى المواقع الحيوية في القضاء، كرئيس السلطة القضائية’ يقتضي ان يتمتع باعلى درجات الشجاعة والنزاهة والاستقلالية الذاتية وقوة الشخصية البعيدة عن الشبهات، التي من شأنها ان تجعله لا يساوم على التدخل في شوؤن القضاء على حساب العدالة، ولا سيما ان النتائج ستكون كارثية على مستقبل الوطن والشعب عندما يتحول القضاء الى وسيلة لتمرير الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان واداة لتكريس مخططات السلطة التنفيذية في الانحدار نحو الدكتاتورية الطائفية المقيتة.
ان الواقع الطائفي والعنصري الذي كرسه الاحتلال، والمهيمن حاليا على جميع مفاصل الدولة، قد اثر تأثيرا بليغا على السلطة القضائية، وجعل منها اداة طيعة لتنفيذ مأرب الساسة المهيمنين على العملية السياسية. وقد تعطلت هذه السلطة عن العمل في تحقيق العدالة، بحكم هيمنة الميليشيات الطائفية والاثنية والعشائرية والعصابات الاجرامية المسلحة على مقاليد السلطة في الدولة.
ان من اهم الحلقات المخطط لها من قبل الاحتلال هو تأمين جانب القضاء العراقي، لذا لجأ الحاكم المدني (بريمر) الى اختيار اضعف شخصية عرفها تأريخ القضاء العراقي على رأس السلطة القضائية والمحاكم العليا، منذ تأسيس الدولة العراقية ولحد الان، لما يتميز به من سيرة ذاتية هزيلة وانتهازية للغاية، اكدها العديد من القانونيين والكتاب المعروفين والمدونات الالكترونية (راجع على سبيل المثال، مقال الدكتور نبيل الحيدري في موقع الناس بتأريخ 02/04/2011 ومقال الدكتور كاظم حبيب في العدد 3263 في 31/01/2011 في الحوار المتمدن وما نشرته بعض المدونات مثل الرشيد وشبكة العراق وغيرها).
وعلى سبيل المثال لا الحصر: ان لجوء السلطة القضائية باسقاط الحصانة القضائية من بعض النواب المحسوبين على الطائفة السنية تطبيقا لقانون الارهاب دون الاكتراث الى (نواب فرق الموت) المحسوبين على الطائفة الشيعية، هو عمل خطير جدا يصب، وبدون ادنى شك، في تأجيج الصراع الطائفي في العراق.
كما ان تمتع سلطات الاحتلال وجميع العاملين معهم بالحصانة المطلقة من الملاحقة القانونية والجنائية عن اية جريمة يرتكبونها داخل العراق ومهما كانت جسامتها استنادا لقرار الحاكم المدني بريمر في 16/4/ 2004، جعل السلطة القضائية في نظر العراقيين لا قيمة لوجودها، ولاسيما ان هذه الحصانة قد شجعت قوات الاحتلال والمرتزقة العاملين معها بارتكاب جرائم دولية خطيرة، كالقتل العشوائي والتعذيب والاغتصاب والسرقات والتهجير وتدمير الممتلكات وغيرها من الجرائم ضد الانسانية. وهذه الحالة بحد ذاتها اسقطت هيبة السلطة القضائية في نظر المواطنيين، بل خلقت جوا من التذمر والعداء والعنف بين المكونات العراقية وشجعت تنامي المليشيات المسلحة وتكاثرها لتحل محل السلطة القضائية من خلال انشاء محاكم خاصة بها، يأتمنها المواطنون اكثر مما يأتمنون القضاء والشرطة..!!؟؟
|