بعد أن أطيح بامبراطورية الاستبداد في العام 2003 ، تعمد أصحاب المشروع أن يؤسسوا لسلطة رأس المال بوصفها حقا ليبراليا يستند الى الملكية والحرية والمسؤولية غير الملزمة، ومنذ ذلك الحين والتأسيس يمر على مراحل في أجواء من الفوضى والانفلات، هذه المراحل يطلق على مجموعها في السياسة بالمرحلة الانتقالية وفي الاقتصاد وعلم الاجتماعي يوسمها البعض بـ”مرحلة التكيف”. وعلى هذا تم التأسيس ووصلنا لما نحن فيه الآن .. أموال لدى هذا وذاك لا يعرف لها مصادر، وسلطة لهذا وذاك بفعل هذه الأموال حتى وان كان صاحب المال خارج المنظومة السياسية، ونحن ما زلنا نعيش الفوضى والانفلات جراء تفشي كل انواع الفساد وغياب الضوابط التي تحتكم لها العلاقات المؤسسية مع التشكيلات المجتمعية والأفراد في ظل ما يسمى بنظام اقتصاد السوق الرأسمالي، بمعنى اننا قفزنا من مرحلة نظام اقتصاد الدولة الشمولي الى ساحة الليبرالية الجديدة التي ينادي بها اليمين المتطرف في الاتحاد الأوروبي وسواه والتي تتيح لرأس المال الحرية المطلقة في ادارة شؤون الحياة، دون أن نمر بشكل النظام الذي تعيشه الدولة الرأسمالية حاليا وفق نظام اقتصاد السوق الاجتماعي والذي تبلور عنه ما يسمى بدولة الرفاه، وهو الشكل الذي يحلم به البعض دون تمييز بين الشكل الاجتماعي والرأسمالي لهذا النظام، اذ يمتاز الشكل الاجتماعي بانضباط مقومات السوق وانتظام عناصره على اثر التطور الواضح في علاقات التشكيلات المؤسسية والاجتماعية الناجم عن حزمة كبيرة من القوانين التي تلزم رأس المال بنظام ضريبي يمول ايرادات الموازنات العامة بما يضمن تطور الخدمات وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للطبقات الفقيرة وبما يحمي المجتمع من سطوة وجبروت أصحاب المال ويجردهم من السلطة المطلقة على فعاليات الحياة في اطار قانوني وتنفيذي صارم. حتى لكأننا ونحن في طور التأسيس الجديد للدولة العراقية الرأسمالية قد تخطينا مطالب اليمين الليبرالي في دول الاتحاد الأوروبي التي يواجهها التيار الاشتراكي والليبرالي المعتدل بمزيد من الرفض خوفا من سلطة المال على شكل دولة الرفاه الذي يضمن للانسان حفظ كرامته في حدود الحاجات والحقوق الطبيعية. اذ لا سلطة في واقعنا ولا قانون فوق سلطة الأموال التي تصنع النفوذ وتتحكم بالقرار المؤسساتي في بلادنا، فمن ينكر سلطة هذه الأموال في تطويع القوانين والتعليمات في الوزارات والمؤسسات الحكومية، ومن ينكر دورها في تشكيل عناصر النفوذ واقطاعيات الفساد التي تمارس الارهاب على الموظفين الشرفاء في مؤسسات الدولة، ومن لا يرى سلطتها على رقاب الناس في التشكيلات المجتمعية، ومن لا يرى دورها في تبرئة الكثير من المفسدين أمام القضاء فضلا عن دورها في عزوف المستثمرين عن العمل في القطاعات الحقيقية والجري وراء الربح السريع في القطاعات غير الحقيقية واشاعة نشاطات الظل وتسريب الأموال نحو الخارج ، ومن لا يعرف دورها في أسواق المضاربات كما في السوق الموازية لسوق العملات الرسمية والشركات الوهمية التي تزداد مكاتبها في بغداد وعموم المحافظات، والأهم من كل هذا وذاك من ينكر دورها في رسم ملامح المشهد السياسي المتخم بالمفسدين والطارئين على السياسة؟. وازاء كل ذلك تتبلور ملامح النظام السياسي والاقتصادي بدعوى الاصلاح لتعطي المزيد من الحرية والسلطات لرأس المال الأجنبي الذي يراد له أن يخلق تنمية حقيقية في بلاد تشظت فيها الرساميل المحلية وهي تلهث وراء الربح السريع حتى أضحت بمجموعها غير قادرة على صنع تنمية في اقتصاد متهالك، وبالتالي فان الاعداد كان موفقا لتتولى الرساميل الأجنبية مسؤولية التنمية، والاستحواذ على سوق العمل في القطاعات الحقيقية والساندة لها مع مزيد من التسهيلات والاعفاءات الضريبية وحقوق المواطنة وفق ما يسمى بـ”مواطنة الشركات” دون أن يكون لهذه الرساميل أية التزامات سوى ما يقال بشأن توفير فرص للعمل وتبليط شارع هنا ودعم بائس للأعمال الخيرية هناك، وبالتالي فان سلطة الأموال المحلية التي فعلت فعلها في التأسيس والفوضى ستكون ممرات لسلطة المال الأجنبي، ان أرادت أن تستمر في السوق. اذ ستتولى الرساميل الأجنبية ادارة كل الفعاليات الاقتصادية بدعوى ليبرالية السوق ومن ثم صناعة القرارات السياسية ورجالتها على وفق ما تشتهيه، وسيكون لأصحاب الأموال المحلية حق التسيد على ابناء جلدتهم اذا ما كانوا ذيولا تتبع سلطة المال الأجنبي التي ستحكم البلاد
|