العراق فوق صفيح ساخن – الجزء الثاني |
بالرغم من الانتصارات الواضحة بفضل التضحيات الجسيمة لقواتنا المسلحة البطلة والحشد الشعبي وقرب حلول الهزيمة لداعش المجرمة ومن يقف خلفها لازال الوضع السياسي ومستقبل العراق بوجه عام يكتنفه الغموض وعدم الوضوح , وقد تحدثنا في الجزء الاول عن غياب الرؤية الوطنية الجامعة وتصدرالدور الاقليمي والدولي لقضية تحديد مستقبل العراق بسبب فشل القوى التي تصدرت المشهد السياسي بعد 2003 في بناء عملية سياسية وطنية حقيقية تهدف لبناء بلد ديمقراطي موحد بعد سنوات طويلة من الحكم الشمولي الديكتاتوري. تعد أمريكا اللاعب الاهم في تحديد مستقبل العراق كونها القوة التي لازالت تحتل البلد رغم الانسحاب العسكري الظاهري الذي تم في عهد اوباما بعدما تكبدت القوات الامريكية خسائر كبيرة في أرواح جنودها ويمكن تلخيص مستقبل العراق وفق الرؤية الامريكية بمشروع بايدن الذي أقره الكونغرس الامريكي ومن المؤكد أن ارادة أمريكا في احتلال العراق هي في تحقيق مصلحة أمن اسرائيل اولا والتي تتحقق في تقسيم العراق بعد نزع أسلحته وحل جيشه وتدمير سوريا وتحييد مصر ومن المؤكد ان للاحتلال غاية اخرى تتمثل في تحقيق ما أرادته الكويت من ثأر وانتقام وتدمير واسقاط نظام صدام والظفر برأسه وتحقيق مصالحها في الاراضي والمياه العراقية. ان موضوع تقسيم العراق ظهر علنا بعد عاصفة الصحراء عام 1991 وبدأ تنفيذه عمليا في فرض مناطق حظر الطيران واقامة اقليم كردستان المستقل عن حكومة بغداد لكنه أصبح مشروعا تم التصويت عليه في الكونغرس في عهد اوباما والديمقراطيين ورغم عدم وضوح رؤية الادارة الجمهورية الجديدة وترامب شخصيا حيال موضوع العراق لكن هذا المشروع كان الاكثر تفضيلا لدى امريكا ودول اخرى في العالم في ضوء قبول قوى مهمة من السنة العرب والكرد به والعمل على تحقيقه . ان أهم التحديات التي تواجه تنفيذ هذا المشروع هي الصراع القادم على الحدود وتوزيع الثروة بين الاقاليم اضافة الى احتمالية ظهورالصراعات داخل الاقاليم ذاتها فرغم أن اقليم كردستان مضى على تأسيسه أكثر من ربع قرن الا أنه مهدد بالانقسام الى اقليمين متصارعين في أية لحظة كما أن الزعامات في المحافظات ذات الغالبية السنية تتصارع من الان على زعامة الاقليم ولم تتفق على عاصمة موحدة له والاهم من ذلك أن هناك قوى وطنية مهمة في هذه المحافظات ترفض مشروع بايدن من حيث المبدأ لكنها قبلت به للهروب من التهميش والاضطهاد في ظل هيمنة شيعية على مقدرات هذه المحافظات والتي كانت واضحة قبل 2014 وهذا الامر هو من أهم أسباب سقوط هذه المحافظات بيد داعش. لقد كانت أمريكا تريد اقامة اقليما سنيا مواليا يحظى بدعم اقليمي سني يمتد من تركيا الى السعودية لقطع الطريق على محور ايران -العراق -سوريا -جنوب لبنان وهذا ما سوف تستمر للعمل بموجبه ان لم تتمكن من تعديل توجهات الحكومة المركزية في بغداد وهذا ما تعمل عليه الان في تعاملها مع حكومة العبادي وما صرح به الجنرال باتريوس بخصوصه. أما روسيا فهي تدعم وجود حكومة مركزية في بغداد لكنها اكتفت بوجودها في سوريا وتركت العراق جانبا ولعل الدول الاوربية وخاصة ألمانيا وفرنسا تحرص بشكل واضح على احلال السلام في العراق خوفا من وصول قوى الارهاب اليها اذا أصبح العراق أو أجزاء منه قاعدة له وتقدم هذه الدول أيضا دعما قويا للكرد بمعزل عن الحكومة المركزية لكنها ليست مهتمة أبدا بمشروع الاقليم السني وتعمل على اقناع الحكومة المركزية في اتخاذ خطوات نحو ضم القوى السنية بشكل منصف فيها. كانت دول الجوار عدا الكويت وايران (ولكل منهما أسبابه ) تقف بالضد سرا او علنا من الاحتلال الامريكي للعراق ورفضت تركيا والسعودية تقديم العون للاحتلال كما وقفت معظم الدول العربية بالضد منه وقامت سوريا باقامة معسكرات على اراضيها للمتطوعين العرب لمقاتلة الامريكان على ارض العراق ومن ثم القيام بهجمات انتحارية حصدت الالاف من أرواح الابرياء من العراقيين وهذا ماصرح به المسؤولون في العراق وأولهم رئيس الحكومة السابقة قبل أن ينقلب السحر على الساحر وتصبح سوريا نفسها ساحة حرب مستمرة الى اليوم. قامت الكويت بتنفيذ أجندتها في العراق ولعبت دورا مهما ولازالت وبدرجة أقل الان في تحديد شكل النظام السياسي أما ايران فقد أصبحت اللاعب الاكبر في المعادلة العراقية وملأت الفراغ الذي تركه انهيار النظام عبر تصدر القوى الحليفة او الموالية لها بشكل مطلق على مقدرات السلطة بعد الانتخابات التي جرت عام 2005 لكن هذا الدور بدا عليه الانحسار الان بعدما عجزت ايران في دعم الولاية الثالثة وتراجع سعيها بهذا الاتجاه بعد اصرار مرجعية النجف الاشرف على موقفها في اختيار رئيس جديد للوزراء عام 2014 رغم أن ايران لازالت تمتلك الكثير من القوة على الارض خاصة بعد دعمها للقوى المسلحة التي حاربت داعش وهزمتها في معارك عدة. لقد حاولت الدول السنية العربية المؤثرة تغيير هوية النظام الجديد وتوجهاته الموالية لايران كما ذكرنا في الجزء الاول من المقال خوفا من المد الطائفي الى أراضيها وحفاظا على استمرار ميزان القوى لصالحها فيه وارتكبت خطأ كبيرا رسميا او شعبيا في دعم القوى المناهضة للعملية السياسية والتنظيمات المسلحة التكفيرية التي أجرمت كثيرا بحق الشعب العراقي وتسببت في خلق فجوة كبيرة يصعب ردمها بين العراق ومحيطه العربي على المدى المنظور. أما تركيا فقد مثلت والى الان حاضنة وملاذا للقوى السنية المناهضة و حاولت ان تحافظ على مصالحها في العراق لكن موقفها تغير تماما وأصبحت قاعدة لهجوم داعش على الموصل ضاربة كل علاقاتها ومصالحها عرض الجداركما أرسلت قوة مسلحة دون اتفاق واضح مع الحكومة وتركيا الان تلعب بورقة العلاقة المتميزة مع مسعود بارزاني في مساومة العراق لكنها مستعدة بأي وقت لحرق هذه الورقة فيما لو وجدت مصالحها تتحقق مع الحكومة المركزية. ان الحل للمشكلة السياسية في العراق يكمن في أن تقوم الحكومة بجعل العراق مكان التقاء للمحورين المتقاطعين على أرضه وان الحاجة الى عقد اتفاق اقليمي جامع لكل دول المنطقة أشبه بحلف بغداد يضمن المصالح الاقتصادية والامنية لها تتعهد الدول بموجبه بعدم الاعتداء والحفاظ على سلامة ووحدة اراضيها سوف يكون أثره كبيرا في استقرار العراق وحل مشاكله الداخلية بفعل كبح التدخلات الخارجية وترشيد العلاقات مع دول الجوار لكن العراق سوف لن يحصل على حكومة يهمها مصلحة شعبه وأبناءه تقوم بمثل هذا الفعل الا اذا جرت انتخابات عادلة حرة ونزيهة يسبقها خطوات جادة لملاحقة قضائية لرؤوس الفساد وسارقي أموال الميزانيات الضخمة على مدى السنوات السابقة لان هذه الاموال سوف تعيد نفس الوجوه السابقة لتصدر المشهد السياسي وهذه سوف تحتمي بالقوى الخارجية وترعى مصالحها في العراق في عملية تبادل المنفعة على حساب مصالح العراق وسوف تحرص على استمرار المشاكل الداخلية لتسويق وجودها الطائفي الذي نجحت باستثماره خلال السنوات الماضية وسوف تذهب بالبلد الى المجهول بعد التقسيم وان على الشعب العراقي بطوائفه واعراقه كافة أن يلتزم بما وجهت به المرجعية الدينية - باعتبارها راعية للتنوع الوطني وبناء الدولة المدنية الدستورية - في ضرورة اختيار التكنوقراط والنزيهين والعمل على بناء دولة مدنية تلتزم بتحقيق الديمقراطية وتحفظ حقوق الانسان وتحترم الاديان كافة وتلتزم القيم المجتمعية وعدم انتخاب الوجوه التي لم ير البلد منها خيرا طيلة السنوات الماضية وهذا العامل الاساس الذي ينتج الحكومة المطلوبة والذي سوف يبرد الصفيح. |