مأزق الإعلام الحر في العراق |
مثلما الديمقراطية لا تعني فقط ممارسة الانتخابات رغم كونها واحدة من مظاهرها، فإن الإعلام الحر الذي يشكل أحد دعائم الحياة الديمقراطية أيضا لا يتحدد بإطلاق حرية التعبير عبر أدواته المرئية والمسموعة والمكتوبة. لقد قدّم الأميركان بعد احتلالهم للعراق الوصفة الديمقراطية لشعب العراق، وتركوا لقادتهم تفصيلاتها التي بنيت -للأسف الشديد- على معايير متناقضة مع الديمقراطية، وصاغوا كذلك معايير الإعلام الحر بما يخدم مشروعهم الاحتلالي ويسّهل جرائمهم. وكان الحاكم الأميركي بريمر واضحاً في تعليماته الإعلامية الأولى والأطر العامة التي شرّعها في استراتيجية الإعلام العراقي الجديد، التي أخذت تنحاز لخدمة مصالح الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة. لقد اجتاح العراق فيضان إعلامي هائل حيث غطت سماءه عشرات القنوات الفضائية و مئات الإذاعات والصحف بدعم مالي ومعنوي من إدارة الاحتلال أولاً، ثم من المؤسسات الحزبية والدينية، وكانت هذه الحالة مبررة بعدما حصل في 2003، لكن هذا الانفتاح الهائل حمل معه مخاطر إجتماعية وثقافية عدة، في إحلال الثقافات الفرعية محل الثقافة الوطنية، فتحولت غالبية تلك الفضائيات إلى منابر طائفية، وإلى مسارح للانقسام الاجتماعي في ظل تخلف وهبوط مهني مبتذل، وتقدمت هذه المخاطر على مخاطر الاحتراب السياسي والانغلاق الفئوي وغياب المصالح الوطنية العليا. ولم يتمكن العدد المحدود من القنوات والصحف المهنية الحرة المستقلة التي ظهرت منذ عام 2003 من مجابهة هذا التيار الواسع، وسط غموض في الرؤية من قبل المؤسسات العراقية المشرفة بسبب خضوعها المباشر للحالة السياسية، ثم تحولت إلى سياسة المهادنة للخطاب الإعلامي الفئوي والطائفي، وإلى التقييد المتدرج وغلق الأفواه وتقييد حرية الإعلاميين خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأصبحت حرية الإعلام أفكاراً ومبادئ على الورق فقط، في وقت كفل الدستور حرية التعبير، وحق المواطن في الحصول على المعلومة، كما أدت أوضاع البلد الأمنية والسياسية إلى إشاعة الخوف والقلق بين الصحفيين، وتحول عدد كبير من الصحفيين إلى ضحايا الإرهاب والعنف السائد مما قيّد حرية الإبداع والشفافية الموضوعية في تدفق المعلومات للمواطنين. لقد انتبهت القوى السياسية وخاصة القوى الحاكمة إلى أهمية الإعلام في حماية مصالحها الخاصة، ومجابهة خصومها بهذا السلاح المهم إلى جانب هيمنتها على الأدوات الأمنية والعسكرية من أجل التأثير في أوساط الرأي العام العراقي لصالحها، ولكنها وقعت تدريجياً في حاضنة الإعلام الشمولي بسبب الاختلاف الحاد بين أطراف العملية السياسية من جهة وبين الشعب من جهة ثانية، وتبلور قطبان متناقضان ومتباعدان في ميدان الإعلام: الأول الداعم للسلطة والحكومة وأحزابها، والثاني: الإعلام الحر المستقل، وما يحيطه من إعلام عربي تمثله القنوات الفضائية العربية غير المعنية بصورة تفصيلية بالشأن العراقي. لقد اشتبكت وتداخلت أمام الفرد العراقي المضامين والتوجهات، حتى ضاعت عليه البوصلة، وداخ في البحث عما وراء الحقائق اليومية المتدفقة في القتل والتشرد والتغييب إلى جانب انعدام الخدمات وسيادة المليشيات المسلحة وانتقالها من فرق الموت في الشوارع إلى الإلقاء المنظم في السجون والمعتقلات، إضافة إلى إدخال سياسات ثقافية وتربوية جديدة من قبل النظام القائم تقصي ثقافة المواطنة، وتتيح الفرص لفتح أخاديد تفتيتية داخل المجتمع، وتعزيز الكراهية والاحتقان الطائفي خاصة بين أوساط الشباب العراقي المهمل والمحروم من أبسط متطلبات الحياة العصرية. إن عدم استقرار العراق وأزماته السياسية المتواصلة الناجمة عن انهيار مشروع العملية السياسة وفشل زعاماتها القائمة على الشراكة التي دفنت أخيراً تحت رمال صحراء الأنبار ونينوى وسهول ديالى وصلاح الدين والبصرة والعاصمة بغداد، وغيرها من مدن العراق، مما انعكس على أداء الاعلام العراقي للأسف الشديد من حيث الاستقطابات المتناحرة البعيدة عن معايير التنافس السياسي الديمقراطي، وانتعاش الفتنة الطائفية، واحتمالات انفجار حربها لا سمح الله، وبدلا من أن يكون الإعلام الحر ميداناً لبث قيم الانسجام والتآلف والوحدة الاجتماعية والابتعاد عن كل ما يثير النعرات الطائفية، ومحاربة دوافع الكراهية والثأر، تحول إلى سلاح بيد المتخاصمين، في ظل سياسة حكومية لا تتقيد بمعايير الدولة الديمقراطية المؤمنة بحرية التعبير وحماية كوادره ومؤسساته، بل وتتجه إلى استحضار ضوابط الحكومات الاستبدادية المصادرة للرأي الآخر، والمثال على ذلك قرار تعليق نشاط الفضائيات العراقية ذوات المواقف المخالفة للحكومة على خلفية (مجزرة الحويجة) والطلب من الفضائيات العاملة في العراق، الانسياق وراء الخطاب السياسي والإعلامي الحكومي تجاه الاعتصامات الشعبية التي تحولت بنظرها إلى ميادين وأوكار للقاعدة والبعثيين، وبذلك يقع كل من يساندها أو ينشر أخبارها باستقلالية عن الحكومة تحت طائلة المادة 4 من قانون الإرهاب. لا شك إن الإعلام الحر يتحمل مسؤوليات عالية في الالتزام بقيم وحدة المجتمع وتماسكه ونبذ التأجيج الطائفي وإثارة نعراته ومحاربته للإرهاب بكل صنوفه ومناشئه العدوة للشعب، لكنه بذات الوقت أمام مسؤولية تاريخية تجاه الرأي العام في ظل التناحرات السياسية وغياب الاستقرار الأمني الذي يستهدف أرواح المواطنين إلى إظهار الحقائق وكشفها باستقلالية وموضوعية من دون إثارة رخيصة تؤذي المجتمع وأمنه ووحدته. لقد أصبح الإعلام الحر في العراق سفينة ضائعة في بحر العراق المتلاطم بالانهيار الأمني والتوتر السياسي والطائفي، وابتعد عن مسيرته الرامية إلى تحقيق النضج المهني والأخلاقي في فعالياته، وهذا الإعلام الذي يعيش في مأزقه الراهن يثير شكوك العالم الخارجي المعني بمراقبة مسيرة الديمقراطية الناشئة في العراق، خصوصاً أميركا التي تعتقد وتسوّق دعوات كونها أودعت في العراق معايير وقواعد سليمة توفر لشعبه قدراً كافياً من النمو والتطور الديمقراطي الحر، وليس الانكفاء إلى مراحل إعلام الحزب الواحد والنظام السياسي الواحد. وإذا كانت مؤسسات رعاية الإعلام في العراق، وهي وفق أنظمتها ذات استقلالية عن الحكومة حريصة على حماية المجتمع العراقي من المخاطر المحيط به، ولا يشك في نواياها، وبدلاً من «انغراقها» في تفصيلات الأداء اليومي لحماية الحكومة، عليها أن تبادر إلى تنظيم وتشريع قواعد وقوانين تجرّم وتحرم الطائفية إلى جانب محاربة الإرهاب، فإلى جانب مادة 4 إرهاب، يتم التجريم وفق (مادة أولى طائفية)، وتتخذ قرارات جريئة بإغلاق ومنع جميع الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائية الداعية والمحرّضة على الطائفية، وتطلق وتدعم جميع الوسائل الاعلامية الحرة غير الطائفية والداعية لوحدة العراق وحمايته. مأزق الإعلام الحر في العراق مرتبط بمأزق الوضع السياسي القائم. |