لقد دأبنا على القول أن أمريكا دولة مؤسسات، وان عملية تبديل الأشخاص في إدارة الدولة كل اربع سنوات او ثمان لن تؤثر في سياستها الخارجية وأهدافها المعلنة ، ربما كان ذلك بتأثير موقفها الثابت من اسرائيل والقضايا العربية والإسلامية عموما، غير ان أمريكا كما تبدو هذه الأيام تقوم، حالها في ذلك حال الكثير من دول العالم الثالث، على فرضية المؤامرة والدولة المزدوجة: الظاهرة، وهي الواجهة السياسية، والعميقة التي تمثل دولة مصالح مراكز النفوذ التي تسير الأولى في الخفاء. الدولة العميقة احدى مظاهر نظرية المؤامرة. يجزم المؤمنون بها أن هناك دولة داخل الدولة، دولة خفية داخل الدولة الظاهرة التي يختبرها الناس ويتعاملون معها. وفق نظرية المؤامرة هذه فإن الدولة الخفية هي التي تفرض رؤيتها وتسيطر على سياسة البلد الداخلية والخارجية بغض النظر عن الجهة الحاكمة. ارتبطت فكرة الدولة العميقة ببعض دول العالم الثالث مثل مصر وتركيا والباكستان التي يمتد نفوذ الجيش فيها بكل الإتجاهات، وما الإنقلابات العسكرية الا احد وجوه الصدام بين الدولتين، غير ان بروز ترامب ووصوله غير المتوقع الى البيت الأبيض، جذب الإصطلاح الى الولايات المتحدة واستخدمه ترامب خلال حملته الإنتخابية ولا يزال، حيث اعتبر المؤسسات الإستخباراتية والإعلام من أذرع الدولة الخفية التي تعمد بين حين وآخر الى تسريب التقارير والمعلومات والأخبار لتوجيه الرأي العام حسب أهدافها. بذلك تحول مفهوم المؤسسات التي يفترض انها محايدة وتعمل من اجل مصلحة البلاد، الى دولة عميقة تسعى الى تحقيق المصالح في اتجاه محدد يخدم فئة اصحاب رؤوس الأموال والآيديولوجا. قبل يومين نشر موقع ذا أنتي ميديا الذي يهتم بفكرة نظرية المؤامرة ويقال انه في العادة ينشر معلومات لا يمكن التحقق منها وتفتقر الى الأدلة والبراهين ، من مصادر لا يمكن وصفها بالمصداقية والوثوقية المطلوبة، ولهذا فإن ما يرد فيه من معلومات وتقارير يجب ان تخضع للمزيد من الفحص والتمحيص اذا أُريد تبنيها. على كل حال، لا دخان بلا نار كما يقال في مثل هذه الأحول اضافة الى ان فكرة نظرية المؤامرة فيها الكثير من عناصر التشويق والإثارة. نستخلص من تقرير ذا أنتي ميديا ان هناك دولة مصالح وأيديولوجيا خفية في أمريكا لا تسمح بالتقارب مع روسيا وانهاء التوتر الذي ينعكس على شكل صراعات إقليمية وتجسسية وسباق محموم للتسلح، بهدف ضمان استمرار الموازنات المالية الضخمة التي تخصص في هذا المجال منذ الحرب العالمية الثانية وتأمين تدفق الأموال الى الصناعة العسكرية وإدامة مصالح بيوتات المال وتجار السلاح ومراكز نفوذ المؤمنين بعقيدة العسكرتاريا والهيمنة على العالم، بينما يسعى ترامب، رجل الأعمال الذي استطاع ان يبني امبراطورية خاصة به رغم الجدل المثار حوله، دون ان تكون له أية خبرة سياسية، يسعى الى ازالة التوتر مع روسيا وتوجيه الأموال الطائلة في خدمة رفاهية الشعب، بل انه يطلب تحمل الدول المستفيدة من خبرات وقوة الجيش الأمريكي التكاليف، ويقول في هذا الخصوص ان أمريكا انفقت ثلاثة تريليون دولار على العراق ثم سلمته الى ايران على طبق من ذهب. أول علامات ذلك يقول التقرير هو طرد مستشار الأمن القومي مايكل فلين عنوةً من إدارة الرئيس دونالد ترامب، والإتيان بأحد جنرالات الصقور رايموند ماكماستر (شارك في حروب ١٩٩١ و ٢٠٠٣ وافغانستان ويعرف بآرائه العدائية للإسلام والمسلمين) الذي سيتخذ موقفاً متقدما ضد الدولة الروسية، ولغرض إدامة الهستيريا المضادة لروسيا، استمر الاعلام في تكرار ادعاءات وجود روابط بين إدارة ترامب وروسيا بالرغم من حقيقة ان فلين، الذي يُعتقد انه كان وسيط ترامب الساعي في هذا الطريق، قد غادر السلطة، وأن خليفته معارض لا يشق له غبار، لروسيا، ولا ينفك الاعلام نفسه ايضاً عن تسفيه طروحات ترامب. أمس عندما أعلنت بيانات الوظائف الأمريكية للشهر المنصرم، وفاقت إيجابيتها التوقعات من حيث ارتفاع معدلات التوظيف وتراجع طلبات الإعانات المالية، وغرد ترامب عنها بفخر، سارع نفس الإعلام ودعا الى تقديم الشكر لأوباما، ومع بعض أحقية مثل هذه الدعوة، فإنها تغفل بشكل مقصود على ما يبدو، ان المؤشرات شهرية وتتأثر بالمتغيرات اليومية للإدارة، والترامبية تهيمن على مختلف اجواء البلاد منذ اعلان فوزه في انتخابات ٨ تشرين الثاني عام ٢٠١٦، وكان من المفروض ان تتأثر سلبا بانتهاء ولاية أوباما وخسارة حزبه للإنتخابات الرئاسية والتشريعية. تمكن ترامب من تأمين كرسي البيت الأبيض من خلال تقديم رؤية مختلفة بشكل ملحوظ لأمريكا عن رؤية هيلاري كلنتون التي كانت مرآة عاكسة لرؤية رئاسة أوباما ، بل وتتباين بشكل ملحوظ اكثر حتى مع رؤى الحزبين المهيمنين على الساحة السياسية، حزبه الجمهوري وحزب هيلاري الديمقراطي، رؤية الجميع كانت تدور حول مقاربة الصقور اتجاه روسيا وحلفائها الإستراتيجيين في الشرق الأوسط، بينما رؤية ترامب بالعكس من ذلك، توقم على احترام الرئيس الروسي وخيارات بلاده ويرغب في صياغة علاقات قريبة خالية من التوتر. يستشف من التقرير ايضاً، ان ما يرعب الدولة العميقة حقا، ان ترامب الى الآن يحافظ على اغلب وعوده الإنتخابية ويسعى الى تنفيذها، وكان مستشاره المطرود فلين، حقيقةً، بصدد عملية تقديم صفقة لمقايضة العقوبات الإقتصادية المفروضة على روسيا بوقف إطلاق النار في أوكرانيا، فحاولت مخالب الدولة العميقة تصوير الأمر وتقديمه للشعب الأمريكي وكأن هناك موضوعاً ما وراء خطاب ترامب الداعم لروسيا، وان الأخيرة ربما كانت لديها مستمسكات اخلاقية او مالية تدين الرئيس. يتبين من هذه المسألة، أن هناك ، في النهاية، في مجتمع المخابرات من يرى ان تكون قضية تلطيف العلاقات مع روسيا صفقة لخلط الأمور على إدارة ترامب وتمهيد الطريق، ربما، للإطاحة به وإحلال مايك بينس ، نائب الرئيس، محله.يرى جوش روين، كبير محرري الواشنطن بوست، أن العديد من الناس يَرَوْن في پينس، الشخصية التي عليها ان تتصدى لوجهات النظر الصقرية المتشددة، التي كان يعتنقها ويدافع عنها في الكونغرس وان على بينس أن يعيد إحياءها، ويبقيها حية في أذهان الناس. پينس على ما يبدو هو الصقر التقليدي المتأثر بشدة بإيمانه المسيحي ويطور، كما تقول التقارير، دوراً شبيها لراسبوتين، العراف الروسي الشهير الذي قيل انه اصبح ذي تأثير كبير على القيصر نيكولاس الثاني وعائلته في أواخر عهده. أكثر من ذلك، يلاحظ روين، أن پينس سوف يعمل من المشهد الخلفي على تشكيل السياسة الخارجية لترامب وفق الأسلوب التقليدي الذي شهدناه في إدارة أوباما، ويقول نصاً :"في البيت الأبيض، عادة يكون پينس متواجداً في غرفته عند اجراء الرئيس لمداخلاته مع قادة العالم ويستلم ايجازاً يومياً من الرئاسة. وبصفته مسؤولا عن الفترة الإنتقالية، كانت الفرصة مؤاتية لپينس من أجل جلب بعض الصقور الجمهوريين التقليديين ووضعهم في المستويات العليا لفريق إدارة الأمن القومي، بضمنهم دان كوتس، مرشح الأمن الوطني، ومايك بامبيو مدير السي آي أي، ونيكي هايلي سفيرة البلاد لدى الأمم المتحدة." ويؤكد المراقبون ان بينس شخصياً كان وراء قرار الولايات المتحدة لمواجهة روسيا وسوريا في الأمم المتحدة بشأن الإستخدام المزعوم للأسلحة الكيمياوية من قبل النظام السوري،وتجاوز كل ما قاله ترامب سابقا بشأن اعادة رسم سياسة أمريكا اتجاه روسيا وسوريا. بالضبط كما تدخل شخصيا لدى الرئيس وطلب منه عزل فلين. دون إيلاء المزيد من الأهمية الى من الذي يصنع ترامب حالياً او يرتب ادارته او يضع سياساته، يقول التقرير تبقى هناك حقيقة ان ترامب هو الذي فاز في الإنتخابات وأن الناس الذين يعملون للإطاحة به لا يخضعون لمعايير النظام الديمقراطي، ولا يؤمنون بها ولا يمكن اعتبارهم يعملون في مصلحة الشعب الأمريكي، لقد حشرونا في مسارين لا ثالث لهما. المسار الأول: يتضمن استسلام ترامب وتبني أجندة مضادة لروسيا، كما هو واضح أساساً في قراره بإرسال المزيد من الجنود الى سوريا جنبا الى جنب مع جنود سعوديين، وهم بطبيعة الحال يستقصدون معاداة ومقاتلة النظام السوري، الحليف الأقرب لروسيا. المسار الثاني: يتضمن احتمال حدوث مؤامرة انقلابية ضد إدارة ترامب، تجبره في النهاية على ترك البيت الأبيض ودفعه خارج السلطة ومبادلته في النهاية بپينس، صقر الحرب الذي سوف يكون سعيدا بإداء الدور الذي كانت ترغب فيه هيلاري كلينتون. |