الأنتصار على الذات


قد يبدو العنوان منفصلا عن مجريات البحث في تطرقه لموضوع الإسلام والمسلمون، وأظن أن مسألة البحث عن حل لهذه الإشكالية يجب أن تطرح في نهاية البحث، خاصة وأننا كمسلمون نعاني فعلا من مشكلة النكوص في تقدير الذات، بين متطرف يرى أنه النموذج الأسمى في الوجود وأن خير مطلق لمجرد أنه مسلم، وبين من يرى أنه في أدنى حضيض المهانة لمجرد أنه مسلم تتقاذفه المشكلات والخلافات وتتلاعب بمصيره ثلة من الأولين وثلة من الأخرين تسيدوا الدين وجعلوه مطية مطامع.
الأنتصار بمعناه المثالي ليس تحقيق قوة الذات لقهرها بمعنى أستلاب الذاتية لصالح التذلل وكسر الإرادة بشكلها الفاعل، وإنما أنتصار لأجل السمو الكمالي في طريق النجاح لأداء دور تأريخي يسجل لها ويجعل منها رقما حقيقيا وليس تراكم كمي بلا فائدة، إنه أنتصار نوعي حين ننجح في أن نجعل من الذات واعية واقعية تتعامل مع الخارج بمنطق عقلاني لا يغفل عن ملاحظة كل ما يدور حولها وتسخره بسلبياته وإيجابياته ليكون دافع للتطوير ومقاومة للإنكسار.
هذا المفهوم الأفلاطوني قد يكون جزء من الأنتصار الذي ننشده كمسلمين بحاجة إلى أكثر من النص الديني لنفهم الدين وعلاقته بالذات وخاصة في الجزء الواقعي من الحياة، يركز أفلاطون في نظرته للذات ودورها على المعرفة كشرط لفهم معطيات الواقع القضية (أن المعرفة تتحقق من خلال الانتقال والارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيا إلى التجرد من كل ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتصال بالعالم المعقول والارتقاء في مراتب المعرفة إلى أن يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول وتناسقه الرياضي) .
تعامل الذات مع المعطى المحسوس تعامل حسي فردي يمكن أن ينقل لها جزء من الحقيقة أو أقل ما يمكن أن يكون دون المعرفة، هذه المعرفة ضرورية لترقية الذات بإعادة وعيها المتشعب بها أولا وبالواقع ثانيا وبالهدف الوجودي ثالثا وبما بعد المعرفة أخيرا، فلا مكان لذات مغيبة أو لاهية عن وعيها أو مغيبة تحت ظروف القهر والحرمان أن تكون ذات حاضرة بمعنى فاعلة، وطالما أن الغياب هنا فعلي فالواقعية في التعامل مع الوجود سيكون تعاملا ظنيا لا يبنى على حقائق ولا يسترشد الصلاح.
منذ أن نشأت الصراعات الفكرية والسياسية ومنها تكاثرت الصراعات العقدية أستلي هذا الصراع الذات المسلمة من واقعها الذي سعى الإسلام لتجسيده كقيمة في الذات المسلمة، قيمة أرتقاء وتطور، إنهارت العوامل التركيبية والتكيفية في الجسد الأجتماعي وبدأ الأداء الذاتي منحصر في إنشغالات الضروري لديمومة البقاء دون أن تنجح كل الصراعات في تحفيز العقل المسلم والذات المسلمة في أن تصنه لها حضور مميز، فيما أجتهد الكهنوت الديني بمسايرة الصراع وتغذيته فشل أن يحقق لها جزء بسيط من الوعي اللازم لمتابعة المعرفة بشكلها الأصولي لتنعم بنوع من الحرية وأستراد الواقع الطبيعي لها.
لا نريد هنا أن نتبنى مفهوم فلسفي محدد في بناء منظومة الذات عبر قهر الأنا ولا عبر قهر الأخر ولا تحطيم الموروث العقلي لتنطلق الذات في فضاء السمو كما هو عند نيتشه مثلا ، بل جل ما نريد الوصول له أن نعيد أعتبار الذات لنفسها ولكونها محور التغيير التي بدونه لا يمكن أن نتجدد أفقيا ولا عموديا، الدين ساهم في دفع المقدمات اللزومية للواقع، ولكن الواقع عندما تحكمت به الصراعات لم يفسح طريقا لهذه المقدمات أن تعود لتمارس دورها الفكري والمعرفي المطلوب.
إذا نحن أمام إشكالية الوعي كأساس حقيقي ننطلق منه للأنتصار للذات وعلى الذات من خلال المعرفة ومن خلال التفكير به كشرط لأسترداد الحرية التي سرقها الكهنوت الديني وجرد الإنسان المسلم من كينونته ليحوله إلى كائن هامشي، كائن يعيش بعقل المجتهد والفقيه والسياسي والسلطان عموما كظل الله في أرضه، قد يكون ديكارت محقا في رؤيته التي تنطبق على جوهر المأساة التي يعيشها المسلم وجوديا، فديكارت الوجودي يركز على الذات الواعية الذات المفكرة كطريق للحرية (ويعتبر الوعي بالذات، في نظر ديكارت، أكثر الأشياء وضوحا، فقد شك في وجود البدن وفي وجود العالم. وأما الشيء الوحيد الذي لا يطاله الشك فهو الوعي بالذات باعتبارها ذاتا مفكرة: فإذا كنت أشك، فإن معنى ذلك أني أفكر، وإذا كنت أفكر فإنني موجود؛ يمثل التفكير، إذن، قوام وجودي. هذه فكرة بديهية، وكذلك تعتبر الأفكار المتضمنة في الذات المفكرة أكثر الأشياء وضوحا على الإطلاق. ويمكن تعميم المبدأ الديكارتي على النحو التالي: إن ما يميز الإنسان هو وعيه بذاته، وهذا الوعي هو الذي يجعل منه كائنا متميزا، ويرقى به إلى مستوى الشخص الحر المستقل) .
إذن الحرية وليدة وعي والوعي ذاته نتاج المعرفة والمعرفة لها خصوصية أنها تجسيد عملي لوجود عقل عامل، عقل يتذكر ويتعقل ويتدبر ويفهم ما هو الواجب وما هو الأوجب، وليس العقل فقط أداة لتلقي النقل من مصدره الفوقي دون فحص ودون تفاعل مع التجربة، الدين ما نكرره دائما تجربة الإنسان في تعامله مع الفضائل كما هي الأخلاق تجربة معرفية أيضا تستهدافان صنع الوعي، لذا فما يفعله الكهنوت الديني في منظومته التبشيرية هو الفصل بين المعرفة وبين الحرية، بين الإنسان العاقل وبين الرب الذي يأمر بالوعي ويطلب منا التفكير والتذكر وممارسة حق العقلنة.