العشاء الأخير للعبادي في واشنطن



المتابعون للشأن العراقي يترقبون زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الى واشنطن في 19 مارس الجاري، للقاء الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة ترامب، وانعكاساتها على مجمل الأوضاع في العراق ومنطقة الشرق الأوسط. فمازال العراق في قلب العاصفة منذ قرابة ثلاث سنوات، بعد وقوعه في صراع مدّمر مع أعتى المنظمات الإرهابية في العالم، ألا وهو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وفي الجانب العراقي الرسمي، يسود تفاؤل كبير لهذه الزيارة وما ستحققه من نتائج على الوضع العراقي البائس، وخاصة بعد تحرير الموصل منذ حزيران2014.
وعلى عكس هذه النظرة التفاؤلية، فإن هناك من ينظر للأمور بمنظار مغاير، وبشل أدق وأعمق، وبنظرة مختلفة تماماً، مع إنها لا تقل تفاؤلا، إلا إنها تشير الى ترتيبات جديدة لمرحلة جديدة في العراق والمنطقة.
ويمكن القول إبتداءً، بأن هذه الزيارة جاءت بطلب وتحديد أمريكي، وليس بطلب عراقي. فالطلب العراقي الذي قدّم فور إعلان فوز ترامب بالانتخابات في نوفمبر الماضي، والذي حددت له الإدارة الجديدة بداية شهر شباط من هذا العام، قد ألغي بقرار أمريكي، قبل أكثر من شهر. وحدد موعد جديد وفقاً لرغبة أميركية صرفة. أي إن الزيارة أقرب للاستدعاء من زيارة رسمية على مستوى القمة.
فالإدارة الأميركية تحضر لمرحلة جديدة ومختلفة، وهي مرحلة ما بعد داعش، والتي بات الجيع يرددها منذ ستة أشهر.
إن ترتيبات المرحلة الجديدة قد بدت واضحة منها، زيارة وزير الدفاع الأميركي للعراق، وزيارة وزير الخارجية السعودي، في الأيام الماضية، والتي بدأت تظهر ثمارها من خلال إرسال قوات أميركية جديدة بدفعات متتالية لكل من العراق وسوريا، الى جانب تحركات روسية وتركية نشطة، وهي ترتيبات تدخل كلها في إطار خطة (تحجيم دور إيران في المنطقة). والى جانب ذلك، فقد بدت التحركات الإيرانية ضعيفة، كما لو إنها فقدت روح المبادرة والقيادة، بعد المجال الكبير الذي أعطي لها في عهد أوباما، الذي اعتمد سياسة غير تدخلية في شؤون المنطقة، وإكتفت بدور المراقب، مما شجع إيران على التمادي في بسط نفوذها، وتحقيق حلمها في تصدير الثورة الإيرانية لجميع الدول العربية.
وعلى الصعيد الداخلي، فالعراق يمُر بمرحلة حساسة وحاسمة تستدعي تدخلا أميركياً للجابة على تساؤلات كثيرة، وهي: ماذا بعد داعش؟ وما هومصير المجموعات المسلحة التي إعترف لها القانون بشرعيتها وفقاً لقانون الحشد الشعبي أواخر 2016، وهي لا تستطيع أن تقنع أي طفل بأنها جيش نظامي؟ وما هو مصير الملايين من العراقيين النازحين داخلياً، وهل سيعودوا لمناطقهم المنكوبة، والتي لا تصلح للعيش في وضعها الحاليي؟ ومن سيعمّر تلك المناطق ثانية؟ وأين موقع سنّة العراق، الذين يجتمعون الان لبحث مصيرهم بعد داعش؟ وأين موقع الأقليات كالمسيحيين واليزيديين، والذين يطالبون بإقليم سهل نينوى، وتلعفر وسنجار؟ وما مصير القوات الأجنبية في العراق بعد ذلك، مثل القوات التركية في بعشيقة، ومقاتلي حزب العمال الكردستاني في سنجار؟ وما هو مصير الطموحات الكردية في الإستحواذ على الأراضي المحررة وتغيير ديمغرافيتها؟ 
هذه الأسئلة كلها يجب أن تجيب عليها الخطة الجديدة التي سترسم ملامح المرحلة القادمة في العراق، وهي بلا شك مرحلة مفصلية شبيهة بمرحلة فوز المالكي في انتخابات نيسان 2014، حيث تجاهل كل النصائح الأميركية والعراقية، وأصرّ على الولاية الثالثة بكل السبل، مما إقتضى منعه، فجاء داعش ليقوم بتلك المهمة، بعد أن غاب عن المالكي إن الولاية الثانية لم تكن له أصلا، لكنها أعطيت مكافأة لإيران للاستمرار في مفاوضات الملف النووي.
والعراق مقبل على انتخابات أجلت الى سبتمبر القادم، وإذا كان العبادي يعتقد إنه سيفوز بإنتخابات أخرى فإنه واقع بنفس وّهم المالكي رفيق دربه ونضاله. فالعبادي إذا ساعدته ظروف المرونة والتساهل وعدم التدخل الأمريكي في عهد أوباما، فإن ظروف الحزم والشدّة التي تبديها الإدارة الأميركية الجديدة، فإن العبادي سيبدو أمامها كقزم يحاول اللحاق بالكبار، لا سيّما وإن تقييم مرحلته ليس مشجعاً تماما. فرغم وعوده في الأصلاح، إلا إنه لم يحقق شيئاً منها، بل زاد الأمور سوءاً، لا بل هو لم يستطع أن يحّد من نفوذ المالكي، الذي مازال يتمتع بنفوذ قوي.
إن إنساناُ بهذا الضعف، وعدم القدرة على حسم الأمور، لا ينسجم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وستكون زيارته المرتقبة، أشله بزيارة المالكي لواشنطن في تشرين الثاني 2013، والتي كشف تفاصيلها المخزية أحمد الجلبي أنذاك، حيث إن الرئيس الأمريكي بالمالكي لم يدم لأكثر من 17 دقيقة فقط، كان كل ما طلبه منه أوباما هو المصالحة في العراق. وعند عودة الوفد للفندق طالبتهم إدارته بدفع أجور الفندق إستعدادا للمغادرة، في إجراءات تتسم بعدم التعامل بشكل دبلوماسي ولبق مع وفد رسمي على أعلى مستوى. وحتى تشكيلة وفد العبادي ستكون مشابهة لتشكيلة وفد المالكي في أم نقطة وهي وزارة الخارجية، فإذا كان المالكي في صراع مع وزير خارجيته الكردي زيباري أنذاك، فإن العبادي غريب عن وزير خارجيته وأمين عام حزبه الجعفري، الذي هو في وادي، والعبادي في وادي أخر. وإذا كان وزير الخارجية في أي دولة هو الذراع اليمين لرئيس الوزراء ويرافق في كل زياراته الرسمية الخارجية، فإن الجعفري عكس ذلك، إذ يظن إنه وليّ نعمة العبادي وهو الذي منحه منصب رئيس الوزراء بإنقلابه على المالكي. وهذه واحدة من أكثر مسائل العبادي إخفاقا، بعد إخفاقه في تحجيم دور إيران في العراق.
وفي تقديري، فإن العبادي سيواجه ذات الموقف، وعليه ألا يركب رأسه، كما فعل المالكي، وإلا فإنه سيواجه نسخة جديدة من داعش أقسى وأسوأ. فقد أتيحت له فرصة أربع سنوات، إلا إنها كانت فاشلة تماما. ومهما أراد أن يظهر نفسه بمظهر البطولة، فلن ينفعه ذلك، فإذا كان يتباهى هو وأنصاره بالقضاء على داعش، فإن الجميع يعرف إن زوال داعش هو قرار أمريكي صرف، لا يشاركها فيه أحد. وإن تاريخ صلاحية داعش قد حدده الأمريكان منذ اليوم الأول لإحتلاله الموصل، عندما صرح قائد القوات الأميركية جيمس تيري في 18 كانون الأول 2014، بأن الحرب ستستمر ثلاث سنوات على الأقل. في حين صرّح العبادي في 29 تشرين الثاني 2016، بأن تحرير الموصل سينتهي قبل نهاية 2016. في حين عارضه الامريكان بقولهم إن معركة إستعادة الموصل ستكون في الربيع القادم. وهكذا فإن تحديدات العبادي لتحرير الموصل لم تكن صالحة حتى للاستهلاك المحلي. في حين كان الأمريكان يقدمون مددا زمنية مختلفة تماما، المغزى منها، إن تحرير الموصل من داعش سيتم بإرادة أمريكية لا عراقية، لذا سيختارون تاريخا ذو دلالات رمزية، كما حدث عندما إختاروا إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية في 8/8/1988، وسيكون هذه المرة في 9/4 وهو تاريخ تحرير أو إحتلال العراق عام 2003.
فالخلاصة التي توصلت اليها الإدارة الامريكية والعالم، هي إن النظام السياسي الديني في العراق لم يعد مقبولا بعد الان حتى على الصعيد الداخلي. فالشعب العراقي أخذ يرشق رموز النظام كالمالكي والعبادي بالحجارة والاحذية في زياراتهم، مما يدّل على إن هذه الحكومة لم تعد مقبولة أكثر من ذلك. لا سيّما حكومة العبادي الأخيرة التي باتت تعرف بأنه أهزل حكومة عرفها العراق في تاريخه الطويل. وستكون إستعادة الموصل نهاية حكم العبادي بعد انتخابات سبتمبر لهذا العام، وسيكون عشاء العبادي في واشنطن بمثابة العشاء الأخير.