ما كاد يمر يوم من ايام السنوات الـ 14 الماضية على بلادنا، دون أن يحمل معه أثرا بالغا لحدث أو مجموعة احداث في آن واحد. وعلى مدار تلك الأيام كانت الحكومات المتعاقبة تتخبط في البحث عن مخارج لسلسلة الأزمات التي ما انفكت تتعاقب على هذا الشعب وكأنه مطالب بنذر لم يقم بالايفاء به، برغم القرابين التي يقدمها يوميا على محراب تقطيع الأوصال. وكانت سياسة الترقيع لما بعد الحدث هي السائدة على مدار تاريخ الأربعة عشر عاما الماضية في المعالجات الجزئية وفي المشهد الكلي، فضلا عن التجاهل المقصود لمئات من الدراسات والبحوث في الشأن السياسي والاقتصادي للبلاد والتي غصت بها مكاتب الرئاسات الثلاث والوزارات السيادية والهيئات البحثية والاستشارية، فيما ترك الحبل على الغارب لمن صدع رؤوس الناس بلغو الكلام الفارغ على شاشات التلفاز التي قدمت مفهوم المؤامرة على طبق من السخرية لتجترها الافواه المتجاهلة لدور من جاء بالأساطيل وأنفق المليارات، بوصفه مبشرا بالديمقراطية ورسولا للسلام في الشرق الأوسط. وصارت ترنيمة «نظرية المؤامرة» شعار سخرية لقطع دابر الحديث عن مشروع مخطط له ينطلق من العراق لادارة الشرق الأوسط باكمله وينهي الصراع العربي الصهيوني وفق رؤية عولمية تكون فيها لنظام اقتصاد السوق الرأسمالي السطوة الكاملة في ادارة اقتصاديات المنطقة عبر تحرير التجارة وحركة الأموال والأيادي العاملة ووضع المناخات القانونية المناسبة لضمان استمرار الاستثمار دون قيود قانونية تتعلق بالبيئة وظروف العمل وضماناتها، فضلا عن الاقتراب أكثر من مصادر الطاقة والأسواق الاستهلاكية والخامات والايدي العاملة الرخيصة، عبر ولوج أموال الشركات التي تحكم العالم في كل القطاعات التي تدير شؤون الحياة، ومن ثم التحكم بسياسات دولها وصناعة القرار السياسي من الحديقة الخلفية للفعاليات الاقتصادية بالتزامن مع الانتهاء من ملف العداء لاسرائيل. ومنذ الشروع بادارة ما سمي بمرحلة الفوضى الخلاقة، والخطاب الاعلامي والسياسي والاقتصادي في بلدنا تهيمن عليه سمة الترقيعية في المعالجات لما يدور في البلاد بفعل الارادات التي تتحكم بصناعة الكيانات السياسية وأدواتها الاعلامية وفي مجريات الأحداث وتداعياتها بعلم من هذا وذاك أو دون علم، وأضحت الاجترارات وترهات الأقاويل التي لا تعطي اجابة لمجريات الأحداث هي السائدة في المشهد، حتى باتت لازمة «هيه خربانة» على لسان أنصاف المثقفين والسياسيين قبل العامة من الناس تنذر بحالة من اليأس لم يسبق لها مثيل. اليوم، وبعد أن تجلت الملامح وباتت أكثر وضوحا في الشأن السياسي والأمني والاقتصادي على وفق مقاسات من صنع المتغير وتداعياته وتحكم في مجريات الأحداث والصراعات، ما زال البعض يخوض في يوتوبيا المفروض والمطلوب، متجاهلا أو جاهلا حقيقة الاعداد خلال السنوات الماضية وحقيقة مآلات ما نحن بصدده الآن حيث تعد العدة لمشروع «مارشال العراق» بهدف صناعة عراق على مقاسات من أنفق نحو ترليون دولار حتى اللحظة منذ دخول قواته للعراق في 2003، وهنا يصطدم الساخرون من نظرية المؤامرة بواقعيتها وهم ينزلقون في طروحاتهم على وفق ما يسمى بـ»يوتوبيا القراصنة» نحو الدعوة لعراق يديره أبناؤه بعيدا عن الارادات الخارجية متجاهلين كل الأسباب والدوافع بشأن ما حصل خلال السنوات الماضية، وكأن العراق محض جزيرة لا سلطوية محكومة ذاتيا وان سلسلة الكوارث التي شهدتها البلاد كانت محض تصارع بين افراد ليس أكثر. المثير للسخرية أكثر من ذلك أن يكتشف بعض هؤلاء أخيرا وهم يتحدثون عن المفروض والمطلوب، ان بناء المصانع والمزارع والوحدات السكنية والخدمات بكل أنواعها لن تكون مسؤولية الدولة بعد اليوم، وانما مسؤولية السوق الذي ستتحكم بحركته الأموال الأميركية في ضوء المشروع الذي يعده حاليا فريق ترامب المتضمن الحصول على نفط العراق لمدة 20 سنة مقابل بناء العراق على مقاسات مستقبل الأموال الأميركية، وان آلاف الخطط والبرامج والستراتيجيات والأطاريح السياسية والاقتصادية التي بحثت عن مخارج للأزمات بدواع وطنية لم تأخذ طريقها للتنفيذ بفعل فاعل، وفي مقدمتها الستراتيجية الوطنية للطاقة التي تم طرحها عام 2012 وكان يمكن أن تصنع عراقا صناعيا متطورا يضمن حقوق الأجيال المقبلة، وان القوى المتصارعة جنحت للسلم بتوجيهات خارجية صارمة، وان الفساد كان جزءا من مشروع الفوضى الخلاقة! وان القوانين التي تحمي مستقبل ثروة البلاد والعباد تم تعطيلها لحين تعديل الدستور واقرارها على مقاسات خصخصة الريع، وان التشكيلة السياسية محض مشروع لحرب أهلية متى ما شاءت الارادات الخارجية، وان كل المعالجات مرهونة بنقطة شروع يحددها أصحاب الأموال التي ستدير شؤون هذه البلاد وترسم مستقبل أبنائه على طريقة شايلوك المرابي.. ومع ذلك ما زال يردد البعض منهم لغوا في يوتوبيا المطلوب في هذه المرحلة بعيدا عن الواقع الذي ساهموا في التأسيس والترويج له، فيما يشير المفروض الى واقع جديد يتطلب الحكمة والمعرفة في التعاطي مع مشروع «مارشال العراق» أو «النفط مقابل البناء»، وسواه لحماية الأجيال القادمة من سطوة الأموال الأميركية التي تريد أن تقرر لوحدها شكل المستقبل في هذه البلاد. |